يصعب اختصار “الشعبوية” والإحاطة بها… هناك شعبويات ديمقراطية ودكتاتورية وعنصرية وثقافية وعلمية، وأيضاً تلك التي تدّعي التديُّن والأخلاق والأصالة… من فرط تنوُّعها، يُظن أنه لا يجمعها جامع. مع هذا يمكن تلخيصها بشعار مبسَّط ترفعه معظم أنواع الشعبويات: “نحن وحدنا نمثّلكم، ونعبّر عن رأيكم”. أي أنّهم يمثّلوننا نحن الشعب، ويعرفون ما نرغب فيه، وما نطمح إليه.

هذا الشعار غير الملتبس يحيلنا إلى حصرية تمثيل الشعب الحقيقي، وما عداه زائف، والأصح عدو. وهي فكرة رائجة اختلقها وتناقلها زعماء سياسيون، لاقت انتشاراً بين البلدان تحت النمو، وفوق النمو، وكذلك البلدان التي تخشى على تسارع نموّها أن يصيبه التباطؤ، تحت وطأة ثقل تدفُّق القادمين من البلاد الفقيرة.

تحت هذا العنوان وأشباهه، يقع أيضاً: “أميركا أولاً”، و”مصر أولاً”… إضافة إلى المحظوظين الذين وُلدوا أتراكاً أو إنكليزاً أو فرنسيين، يُعبّر عنه السوريون من طرفهم بهذه الجملة “أنا سوري يا نيالي”، وهي تعابير تستدرج الشعوب في النهاية إلى مشاعر عنصرية تجعلهم يتوهّمون أنهم متفوّقون على الشعوب الأخرى، ولو كانوا في منتهى التعاسة والفقر، ينشدون فرصة تسنح لهم يتخلّصون بها من بلدانهم العظيمة.

” خطاب يستدرج الشعوب إلى مشاعر عنصرية توهمها بالتفوُّق”

منذ عقود، يشكو العالم من صعود تيارات شعبوية في العالم الغربي “المتقدّم”، لا تشكّل الديمقراطية السمحاء إزاءها رادعاً، ولا حاجزاً. بالعكس، سهّلت ظهورها، ووجدت في شوارعها وجرائدها وبرلماناتها مجالاً للتعبير عن طموحاتها، وأصبح لها وجودٌ فعلي مؤثّر في سياسات بلدانها؛ فالسياسي الشعبوي يزعم أنه يستمد شعبيته وقوته من الشعب مباشرةً دونما وسيط. ويسعى ليحلّ محلّ المجالس النيابية بتسمياتها المتنوّعة من الكونغرس مروراً بمجلس العموم البريطاني إلى مجلس الشعب السوري، أي من المجالس الراقية إلى المنحطّة.

يلجأ القادة الشعبويون إلى مداعبة الشعب، سواء في نشأته المتميّزة، أو تاريخه وجغرافيته، وينسبون إليه من العبقرية والتفرُّد ما يستنهض كراهيته للآخر الغريب والملوّن والمتخلّف والفقير… ويُسهّل طريق الوصول إلى السلطة للتسلُّط على الشعب المغرور بذاته.

لا يعدم التاريخ القريب أمثلة على هذا النوع من التسلُّط، وفي هتلر وموسوليني أمثلة بغنىً عن التعريف. قاد الرجلان شعوبهما إلى حروب مجنونة بدعاوى سخيفة، كتفوُّق العرق الآري، كانت مبرّراً للقبض على اليهود والغجر والمعاقين والمثليّين وزجّهم في مخيّمات تحت ظروف سيئة، رهينة الموت البطيء والسريع. أمّا في التاريخ الأقرب، بالأحرى الذي نعيشه حالياً، فسجون الأنظمة الدكتاتورية، ومعتقلات الإرهابيّين تحقّق الموت بأنواعه المختلفة.

لم تقتصر الزعامات الشعبوية على سياسيّين نكرات أو مجهولين، وإنما على خطباء مفوّهين من سياسيّين مخضرمين، ذوي ماض يساري أو يميني، يتاجرون بادّعاءات ديماغوجية تجد من يصغي إليها، مبعث قوّتهم، أحزاب وازنة في الانتخابات. كما لا يفتقد العالم إلى رؤساء شعبويين فازوا بانتخابات ديمقراطية، أو بانتخابات مزوّرة، ودكتاتوريين استولوا على الحكم وكرّسوا بقاءهم بشعبوية أفلحت في كسب المؤيّدين بالمنافع.

ينظر الشعبويون إلى الشعب على أنه كتلة مائعة، يعيدون تشكيل ملامحها، بما يضفونه عليها من العظمة، ويستغلّون أسوأ الأوقات مثل الكساد واليأس الاقتصادي، والهزيمة في الحرب، وبدلاً من أن يُبصّروا شعوبهم بالحقيقة، يخدعونها بادعاءات التفوُّق على الشعوب الأخرى، من دون حامل لها في الواقع.

هذا شيء مبسَّط عن الشعبوية التي تحاول اجتياح العالم بدعاواها العنصرية، إنها الخطر القادم. وإذا أراد العالم إيقافها عند حدود الحقيقة لئلّا تستمر بالأكاذيب، فالديمقراطيات هي المكلّفة بهذا العبء الذي لا يقتصر على بلدانها، بل وعلى بلدان الشعوب المغلوبة على أمرها، فالشعبويات تستدرج الشعبويات. وليس عسيراً ملاحظة أن الشعبوية باتت تلهم العسكر المتلمّسين طريقهم إلى السلطة، فالتسلُّط لا يحتاج لأكثر من المتاجرة بأمنيات الشعوب، بحيث تصبح المبالغة في إزجاء الوعود، لغواً مُقْنِعاً، ما دامت السجون تسانده.