لم ينشأ الالتزام مع دعوة سارتر في كتابه “ما الأدب؟”، ولا مع صرخة زولا “إني أتهم”، وطبعاً لم يسبقهم هوغو. وإنما كان “الالتزام” التوصيف الأدق للانحياز إلى قضايا إنسانية، عالمية ومحلية، عامة أو ذاتية… لكن شاء النقد والنقاد أن يلصقوا به ما شاءوا من مثالب، فأفقدوه الفن، لأن الفن برأيهم يأتي قبل كل شيء، وجعلوه على عداء معه، فالفن ينبذ الالتزام، مثلما الالتزام ينبذ الفن، لا يتجانس معه، ولا متسع له إلى جانبه. فلم يعد الأدب الملتزم برأي عتاة نقاد الأدب يزيد عن منشورات نضالية وتعليمات حزبية، وأبطال أيديولوجيين متيّمين بالاشتراكية أكثر من حبيباتهم، ويعشقون المعامل أكثر من عشيقاتهم، ويموتون من أجل رفع معدلات الإنتاج.
رغم ما أصابه من محن تبدّت في السخرية منه، والحطّ من شأنه وكأنه اختراع بلشفي، والوجه المخاتل للواقعية الاشتراكية، أو تقليعة انتهازية تبشّر بالنضال الهادف في الأدب، وتحويله إلى أدب ممجوج، تحت راية الكفاح الأممي، لا يغيب عنه كادحو العالم من عمال وفلاحين، لم ينل الالتزام ما ناله من دعاية سيئة إلا لارتباطه بالحرب الباردة بين الروس والأميركان، فكان من عناصر هذا الصراع، واحتلّ مكاناً متقدماً في تفسير الأدب والانحياز إليه وضده. وكان في انهزام الاتحاد السوفييتي هزيمة غير عادلة للالتزام.
” كان في انهزام الاتحاد السوفييتي هزيمة غير عادلة للالتزام”
في الحقيقة، كان خصومه الأدباء المنحازين إلى الغرب الذين انتصروا على الأدب الشيوعي على أرضية سياسية، فلم يحتاجوا إلى الفن لدحضه، ومن حسن حظهم كانت الواقعية الاشتراكية تعتبر الفن وصمة برجوازية. فلم يعد الالتزام في ذلك الصراع إلا الالتزام بالأيديولوجيات، وفي الواقع، مثلما جرى الانحياز إلى الأيديولوجية الشيوعية، جرى الانحياز إلى الأيديولوجية الرأسمالية، كان الطرفان أبواقاً لأيديولوجياتهم.
في العودة إلى أصل الالتزام تبيان لنشأته تحت عناوين أخرى، إذ نشأ مع إهدار الحقوق… والوعي بحق الحياة والعدالة والحرية والمساواة. إن في إعادة الاعتبار إليه، عودة إلى الإنسان والإنسانية وعدم التحايل على مآس حقيقية في زمن هو بحاجة إليه، طالما الدول الشمولية، رأسمالية كانت أو ليبرالية، أو قمعية، أو دولا على طريق الشعبوية، أو ما شاء لها الادعاء، ملتزمة بالقتل والتعذيب والتغييب القسري والإعدامات.
أما الذين يسخرون من سذاجته، فخلو العالم منه لا يمكن تصوّره مهما حاولنا. إنه جزء من تركيبة الإنسان، حتى للذين لا يأبهون به.
وبالنسبة إلى الذين يُبدون مخاوفهم منه، فلن ندخل في متاهة نضيع فيها، لا تزيد عن مماحكات تبدو على مستوى رفيع من الثقافة، نقف إزاءها عاجزين عن استيعاب ماذا يكون هذا الفن المضاد للالتزام. بينما الأمر ببساطة، هو أن لدى الكاتب فكرة يريد التعبير عنها، وكلما كانت حقيقية وحسّاسة ومؤثرة تختلق أسلوبها، ما الذي يعنيه الأسلوب سوى الفن؟ إذا استطاع الكاتب الإمساك بالفكرة والإيمان بها، فسوف تمتلكه، وتبقى الدقة في التعبير هي محك الالتزام والفن معاً، ولا يمكن للكاتب أن يؤدي الغرض منهما إلا بالتعبير عما يريد قوله، فالفن قدرة الكاتب على التوصيل والتأثير.
ما البديل عن الالتزام؟ هل هو التحلل من الإنسانية، أم التحويم في فضاء الخيال، أم إنكار الواقع والقرف منه؟ من يستشهدون بماركيز، فلمعلوماتهم لم يغادر الواقع ولم يتنازل عن الفن، كانت رواياته تنزف دماً، ولا ينقصها الحب ولا الشغف… إنه كاتب ملتزم.
-
المصدر :
- العربي الجديد