مِن جملة ما أنتجه القرن الماضي، خفوتُ النزعة الفردانية، وكان ذلك مع ظهور حركات الجماهير بقوّة وانتشارها في العالم، مع أن ظهورها السابق كان في الثورة الفرنسية، لكن استعادة الملكية لمواقعها وظهور الإمبراطوريات، أدّى لتراجعها. فيما بعد، ستثبت تحرّكات الجماهير، التي اكتسحت العالم، أنها لم تكن كما جرى التنبؤ لها، قدر البشرية، بعدما انتهت إلى الفردانية، ما أسّس للدول الشمولية، فبدأت دورة أخرى، كانت في العمل على إسقاطها.

تركت النزعة الجماعية أثاراً في صميم المجتمعات، من بينها أن كلمة عبقري لم تعد تقتصر على العلماء والمفكرين، باتت أوسع، تشمل مجتمعات ونظم حكم وجغرافية. وأصبح من الدارج وصف الرأسمالية بالعبقرية على ايجادها حلولاً وفّرت انفجار أوضاع اجتماعية، واندلاع ثورات، وإن كانت من صناعة رجال شهد لهم التاريخ بالعبقرية. بينما جرى التحامل على عبقرية الثورة، ودُعيت بعبقرية الفوضى، فالثورات لم تخترع الحرية والعدالة، لم تفعل أكثر من رفعها شعارات كانت في جوهرها إنسانية، أضافت إليها أسنّة الحراب وقطع الأعناق، مثلما الثورة الشيوعية، لم تبخل بالتنكيل الجماعي خصوصاً رفاق الطريق. أما ما دُعي بالثورات في البلدان العربية، فليست غير انقلابات عسكرية، أضافت السحل والمحاكم الميدانية، حسب الطبعة المحلية.

” حرّضت الدكتاتوريات المتنوعة على اندلاع العبقرية الجماعية”

حاول بعض الغيارى على شعوبهم، وصفها بالعبقرية، ومنهم من أسبغها على الماضي، فوصفوا الفراعنة بالعبقرية احتفاء بما تركوه خلفهم من آثار، أكثرها إعجازاً الأهرامات، بما حملته من لغز سواء في الغرض منها أو عمارتها، وأبرز ما دلت إليه، تحدي الزمن والفناء. وإذا كان لا بد من وقفة، فللإشارة إلى عبقرية المكان التي لا دخل للبشر فيها، ما يذكّرنا بكتاب الدكتور جمال حمدان الفريد “مصر دراسة في عبقرية المكان”.

عموماً، لا يُستهان بعبقرية الشعوب التي تتبلور في عصرنا في استدعاء العبقرية الجماعية، لدحض أنظمة فردية على طريق التفاقم والتحلل في آن واحد، ما يساعد على فهم المتغيرات الكبرى التي ترتسم معالمها الكبرى في الغرب والشرق، وإلى حد ما، تشهد المنطقة العربية بداياتها المشوشة وبعض مظاهرها الفاقعة. فالمنطقة الواقعة تحت ضغوط الدكتاتوريات المتنوعة، حرّضت على اندلاع العبقرية الجماعية؛ تجلّت في الربيع العربي.

شكلت وسائل التواصل الاجتماعي منبعاً غزيراً احتل الصدارة في النهل من معارف باتت شائعة لعبت دورها في الاطلاع على أساليب حياة الشعوب الأخرى بإيجابياتها وسلبياتها، وما تمارسه من ديمقراطية، وتقدم هائل، واحترام لحقوق الإنسان، واحتفالات شعبية ووطنية، وأعراس أسطورية لأمراء وأثرياء، وحفلات لا تقل بذخاً عنها لأساطين الفساد، أو صرعات الإثارة المرافقة لنجوم الغناء والتمثيل. في كل هذه الحالات وغيرها هزّت هذه المشهديات المشاعر بشكل جماعي، وكانت عامل تنوير ومقارنة مع ما نعيشه من قمع وكوارث وحروب وأحداث دامية، قدمت الدليل على أننا نعيش خارج العصر.

نحن شعوب انتظرت التغيير من حكومات وطنية وأحزاب تقدمية، وعدتنا بالانتقال من حال إلى حال. والآن بعد الاستقلال بما يقارب القرن، تبدو المنطقة أشبه بأنها محتلة ومنزوعة الكرامة، تعاني من القمع والفاقة، وفي طريق مسدود. فكانت عبقرية الربيع احتفاءً بالشعب كلف مئات آلاف الضحايا. لم تمارس أعمالها كاملة، فالشعب لم يشارك فيها بكامل طاقته، بالتالي ينبغي ألا نستهين بعبقرية الغباء التي دفعت جماعات تعاني من الطغيان إلى الانشقاق عن شعوبها، مثّلت شريحة خانعة ولو كانت متواضعة لكنها مؤثرة، عاندت الحرية والعدالة، وانحازت إلى أنظمة القهر، وتباهت بما تُنعمه عليها من منافع تافهة.