إذا كانت الثورات العربية، تشير إلى يقظة شعوب المنطقة، فقد تأخرت، وستدفع باهظاً ثمن استعادة حقوقها، لزمن لا يعلم إلا الله، إلى متى سيدوم. وربما في تفسير تأخرها، درس قد يفيد أو لا يفيد، هو للتاريخ أكثر منه للبشر. فالبشر لا يتعلّمون من أخطائهم، ما داموا على استعداد لتكرارها لا لتجنبها.

يعزى هذا الخطأ إلى أن هذه الأنظمة لم تسقط عقب أو مع سقوط الأنظمة الاشتراكية في العالم، وهو أمر محيّر، ما دام أن النسخة الأصلية قد تهاوت، بينما صمدت أنظمتنا المشوَّهة، الشبيهة بها، التي جهدت في تقليدها، وإن لم يكن طبق الأصل، مع أنها من السلالة نفسها.

لم تغتنم الشعوب هذه اللحظة التاريخية، كانت تعتقد بعودة الشيوعية، السند الداعم للبلدان النامية والعالم الثالث، وكأنه لا يصح للقدر الشيوعي الغياب عن عالم كان بالشراكة مع الإمبريالية، ولا يعقل أن تدع روسيا نصيبها منه نهباً للرأسمالية. فاعتبر سقوط الاتحاد السوفييتي كبوة عارضة، سرعان ما سيستعيد موقعه، فالماركسية لم ينزح ظلها وثقلها عن سماء الفكر، لولاها سيعود العالم مجهولاً.

” نجاح الثورة مرهون بعدم الاستماع إلى وعود عصابات الحكم”

لم يدر سدنة اليسار العربي أن الماركسية كأداة لفهم العالم، لجأت إلى الجامعات، بالأحرى لم تغادرها، وإن كان المؤمنون بها قد خاضوا معاركها واستبسلوا فيها ونجحوا في إقامة النظام الاشتراكي في روسيا، وسلسلة الاشتراكيات الأوروبية.

ما جهلوه، أو تجاهلوه، أن البشر هم الذين تولوا ترجمة الماركسية إلى نظام حكم، وأن ستالين بالذات أحد الذين عملوا على تشييد إمبراطورية على الأرض، غير مدينة للماركسية، بقدر ما كانت التحاقاً بالنازية والفاشية.

بالعودة إلى أحزاب اليسار العربي، وجماهيره المخدوعة بالأيديولوجيات الشمولية، إضافة إلى الأنظمة المتطفلة على الاشتراكية، والتي نجحت بتحريفاتها في ادعاء الخصوصية، فكانت بوجهها الأميركي اللاتيني، أو بأصالتها العربية، تنتظر عودة الاتحاد السوفييتي إلى رشده، بينما كان ذاهباً في الطريق المعاكس، وأبطال البيروسترويكا يتباهون بأنه خلال ثلاثة أيام أصبحت روسيا رأسمالية، بينما احتاج الغرب إلى ما يزيد عن قرن ليصبح رأسمالياً.

في الواقع، كانت الأنظمة العربية تمتلك “وعياً” يفوق شعوبها، ومعهم المنظّرون الغارقون في المقولات الماركسية اللينينية الستالينية التروتسكية الماوية، ينشرون دعاياتهم عن تغيير العالم، بعدما استنكف الروس عن هذه المهمة.

انتهزت الأنظمة الفرصة، وأخذت بتشديد قبضتها على شعوبها، فلم يعد الجيش حامي الوطن (أصلاً لم يكن بهذا الصدد) بات حامي القصر الجمهوري. أما الأجهزة الأمنية المسلطة على المعارضين، فأصبحت تطاول الشعب بكامله، وتراقب الكلام والصمت والأنفاس، أخيراً تطويب رجل السلطة الأوحد؛ الدكتاتور أو على منواله. بذلك أصبح الوطن ملكيته الشخصية، يحق له توريثه لمن يشاء، ومن أحق بها سوى أولاده. وكانت ضمانة هذا الترتيب، شراء الولاءات بتوزيع المناصب والمنافع وإباحة النهب، في ما أصبح يدعى بدولة “الفساد المعمم”.

نعم تأخرت الثورات، لكنها أتت أخيراً، وما زال القمع مستمراً، مضى عليه نحو عشر سنوات من القتل والتدمير، ويمضي في المنطقة حاملاً لغته الوحيدة نفسها؛ القتل والتدمير، لكن الثورة أصبحت مناخاً سائداً.

اليوم، السوريون والعراقيون واللبنانيون والجزائريون والسودانيون واليمنيون والليبيون، تجمعهم في العمق ثورة واحدة، ونجاح أي شعب، يشدّ أزر غيره من الشعوب. هذه الثورة الكبرى استمراريتها مرهونة بعدم الاستماع إلى وعود العصابات الحاكمة، وألا يداخلها الشك في أن الدكتاتور وأشباهه، ليسوا أكثر من لصوص يتذرعون بالسياسة، ومهما غيروا من أرديتهم، فقد أضافوا إلى وصف “اللص” وصف “السفاح”. أما بطانتهم من وزراء ومعاونين ورجال أعمال ومحللين سياسيين وإعلاميين ومثقفين، فلصوص صغار، ليسوا أكثر من مجموعة من الأوغاد السفلة.