لم يقتصر استدعاء الخيال على السينما، فالأدب هو الأصل، وإن بدا أنه تجلّى وتوهّج في الفن السابع؛ بعدما بات ساحته الكبرى الأكثر تأثيراً. ولا تختلف الأحلام عنه كثيراً رغم صناعتها المشوشة داخل النفس، طالها الأدب وأسهم بتفسيرها واستغلال غموضها وتجاوزاتها المثيرة، لا سيما حرية الحركة في الحلم، والتنقل في الزمان والمكان، والتشويه العشوائي. كذلك لم تفلت التداعيات والهذيان من سطوة الأدب، ومهما كان أسلوب استخدامها، فلن تبلغ أقصاها، ما دامت آفاقها ممتدة بلا حدود تحدها.

إن خلق عالم خيالي، مختلف ومخالف لهذا العالم الذي نعيشه، يغفل حقيقة هامة، وهي أن الخيال وحده قد يشيد بلداناً أسطورية، ويختلق أبطالاً ذوي طاقات خارقة، وعشاقاً مجانين وعشيقات متيمات، وبشراً يطيرون بلا أجنحة، ومعارك مخيفة، إضافة إلى تضحيات حتى الموت من أجل الحرية، وقتال لدواعي الثأر والشرف… وهي بذلك تتكئ على نوازع متوافرة في عالمنا، ولو كان بمبالغات نتمنى لو كان بوسعنا القيام بها، تستمد مشروعيتها من ثنائية الخير والشر، والصراع الخالد بينهما. وإذا خالطنا الوهم في انتصارات الخير، وتغاضينا عن الشر المهيمن على العالم، فامتثالاً لرغبتنا في تحقيق ما نعجز عنه، وفي الوقت نفسه التحرّر من العالم الواقعي، مع أنها تزجّنا في عالم أشبه بواقعنا، لكنها بريئة منه، هذا لا يحصل إلا في الخيال، مع أن الدوافع قد تكون نزيهة في صياغة عالم جميل ورهيب، ولو كان سنده الصلب مفتقداً. وفي حال أوحى به، فليبرر شطط الخيال والرعب والجمال.

” ليست الأخيلة نقيض الواقع، إنها بطانته الأكثر عمقاً”

لا يصنع إطلاقُ الخيال أدباً ولا فناً، إن لم يمكن التحكم فيه، كذلك الأحلام والتداعيات والهذيان… جيمس جويس في روايته “عوليس” لم يستسلم لتيار اللاوعي، صحيح أنه أفلت العنان له، لكنه تحكّم فيه، كذلك فرجينيا وولف في رواياتها اللافتة. لم يدعا تداعيات بلوم ولا مسز دالاوي تأخذهما في طياتها، وإلا كانت الرواية تكتب نفسها بنفسها، ومن دون نهاية، تأخذ من نبع لا ينضب من ثرثرة الحياة، وما نهواه وما لا نهواه، ما نتمناه وما لا نتمناه… بغرابتها وعاديتها وجنونها وفجاجتها وسخافتها.

لا يمكن للخيال والأحلام والتداعيات، أداء أدوارها إلا بضبطها داخل عمارة، لا ينبغي أن تكون حدود دوائرها فالتة، بحيث تستولي على العمل الأدبي، إنها جزء من معمار، وليست عوالم منفصلة مستقلة، وذلك بعدم عزلها عن الواقع، وإغفال الوشائج معه، إلى حد يمكن القول إن لا معنى للخيال والحلم والهذيان، ولا يمكن تفسيرها، ولا فهمها إلا بالاسترشاد بالواقع، وكونه الدليل في غمراتها.

من هذا الجانب بالذات، إن لم يكن لدى الروائي القدرة على إدراجها في تركيبة الرواية، فلا يزيد استعمالها على هدرها، بينما في القدرة على إدراجها في العمارة الروائية، وبشرط ألا يكون تطفلاً ولا عالة عليها، أو للتنويع، ولو كان حتى للتجميل، عندئذ تصلح للعب أدوارها المثلى في إثراء الرواية، فالخيال مهما حلق في السماء، نبت من الأرض.

فالفن، حسبما يقول الروائي الفرنسي أندريه مالرو ليس أحلاماً وتخيلات وإنما استخدامها في عمل يصبح ملكاً للواقع. فهي ليست نقيضه ولا على تضاد معه، إنها بطانته الأكثر عمقاً، الحافلة بأسراره وظلماته ومتاهاته. إن امتلاكها حسب مالرو، يكون في توظيفها، بإعادتها إلى الواقع الذي كانت تعبيراً عنه، والاعتراف بمديونيتها للأصل، ترتد إليه بالكشف عنه.