ليس هناك كتابة بريئة، اللهم إلّا كتب الأطفال في حال قرأها الكبار، غالباً لا تعنيهم، فلماذا يهتمّون بها؟ لكنهم لو أمعنوا النظر إليها، فلن تكون بريئة، إنها احتجاج على عالم الكبار في حال كتبها الأطفال، وبما أنَّ الأطفال نادراً ما يكتبون قصصهم، بل يتولّاها الكبار، فلا خطر منها.

وعلى النمط نفسه، ليس هناك كتابة نظيفة، وإذا افترضنا وجودها، ولو كان مستبعداً، فلا بد أن جهلنا أوحى إلينا بهذا الخاطر النظيف، وهو أمر مضلّل لو استفحل، فقد تظن دوائر مسؤولة توافر هذا النوع من الكتابة، فيطالبون بالمزيد منها، وبلا شك سيطالبون أيضاً بتنظيف الكتابة من الغايات المشبوهة والأهداف المشكوك فيها، إلى حد تعقّب النوايا.

عادةً تضطلع دوائر معروفة في الدولة الشمولية بهذه المهام، والبحث أيضاً في ما يطرأ من أنواع على شاكلتها تؤثّر في استقرار المجتمع؛ فالرقابة لا تكفي، ولا بد من تشكيل هيئة ثقافية تحت عنوان “متعقّبي القاذورات في الكتابة”، صلاحياتها تتعدّى الظاهر إلى الباطن، تعمل على تعقيم الكتابة بالقضاء على العابثين بها، بشنّ حملات على رأسها أدباء ومثقّفون “زعران”، على نمط البلطجية والشبّيحة، يثرثرون بالإنسانية وتجنيب الوطن من الويلات، وإنقاذ ما يمكن إنقاذه. أمّا ما يتخلّف عن هجماتهم المسعورة من ضحايا، فبإلقائه إلى مكبّ النفايات البشرية من سجون ومعتقلات.

” هذه البلاد ليست بخير، فلماذا تكون الكتابة بخير؟”

لم تتطوّر خبرات هؤلاء الطليعة من المثقّفين الذين يدّعون تأييدهم للسلمية، بينما هم في أحضان أجهزة الأنظمة، إلّا بعد خبرات استجدّت، مع ظهور معارضات شعبية في المنطقة، تجهر من جديد باحتجاجات وتتوعّد بثورات، خاصةً بعدما لم يُشيَّع الربيع العربي كما جرى الاعتقاد، إلى مثواه الأخير، حتى أن التفكير اتجه إلى اقتلاعه من قائمة الفصول الأربعة، رغم ما تخلّف عن موجته الأولى من ضحايا ودمار، كانت جزاءً على التمرُّد ضد أنظمة نظيفة، تنضح عفونةً.

ما الذي جعل الكتابة الحقيقية، صادمة، وغالباً تصادمية؟ يهيمن مناخ من الفساد والإجرام على المنطقة، تحت رعاية دول إقليمية وكبرى، تُشكّل حمايةً لأنظمة متخلّفة، الفساد سندها الوحيد، لا تخفي عدم مبالاتها بالبشر، والاستهانة بحاجاتهم واحتجاجاتهم، وعدم الإصغاء إلى مطالباتهم بالعدالة، ليس بلا سبب، هذه الأنظمة باتت لا أكثر من عملاء، تسهّل للدول السيطرة على مقدّراتها كدول فقيرة باستنزاف أراضيها وثرواتها وموقعها الجغرافي. فكان الفساد النعمة الكبرى لاستمرارية هذه الأنظمة، وتشجيعها على تكديس المال في بنوك الغرب الآمنة.

هذه البلاد ليست بخير، فلماذا تكون الكتابة بخير؟ إذا كان عالمنا يغص بأمثلة عن احتقار الشعوب، تنحو إلى إلغاء البشر من حسبانهم، واعتبارهم موادَ إن لم يطلها السحق، فالحرق، لو اعترضت غاياتهم المشؤومة. فهل يجوز أن تكون الكتابة الحقيقية نظيفة؟

يرزح البشر تحت سيطرة أنظمة، بحماية منظومات كبرى، لا تخفي جشعها إلى الاستيلاء على مقدّرات الدول الصغيرة، وإلّا ما الذي يُفسّر وجود أمثال ترامب وبوتين والكوري كيم جونغ أون والثنائي الأسد والسيسي… القائمة تطول، بحيث يدفعنا الظن إلى أنّهم بتركيبتهم يشكّلون مشهداً مثالياً غايةً في الرثاثة، ومثالاً للبشاعة والقبح في طور الظهور والهيمنة الغبية على العالم، والعودة إلى القوّة العمياء، لا يمكن أن يحصل إلا بوأد مطالبات البشر في عالم ينحو إلى الانتفاض، وعلى استعداد لدفع تكاليفه غالياً.

ليس من العبث فقط، بل ومن الجائر أيضاً، الكلام عن تنظيف الكتابة، طالما أن مصدر القاذورات طغمة تتحرّك في عالم لا تحدّه موانع، كأنما لا حدود بل جسور بينهما. إن التعرّض إلى تفسّخ العالم، لا يقينا من روائح الزنخ والعفن.

اقــرأ أيضاً