حسناً، لقد تخلّصنا من الاشتراكية والشيوعية، وباء بالخذلان ماركس وتلامذته ومعه المحرّفون والمنشقّون سيئو النوايا وطيّبوها، ولم تعد الماركسية أكثر من نظرية في الاقتصاد، خسرت محاولتها في تغيير العالم، ولن تكون الخسارة فادحة إلّا باستغلال تأثيرها في العالم على عكس ما ارتجاه زعماؤها، فاستفادت الرأسمالية من سقوطها في تجاوز أزمتها، وشهدت منذ عقود ازدهاراً لا مثيل له، في تركيز الثروات بيد حفنة من الأغنياء يبذخون ببذاءة لا نظير لها، بينما الطبقات الأُخرى قد رُوّضت ولم تعد تفكّر في الثورة، وإذا طالبت بالتغيير فبالاحتجاج المنظَّم، لا تخرج في مظاهرة إلّا بعد استئذان السلطة، وبالتالي فإنَّ أيَّ تغيير متوقَّع، لن يكون إلّا بالسماح به، وتحت إشراف السلطة. بيد أن هناك استثناءات… بعض البلدان قادتُها طغاة في منتهى الوعي وبُعد النظر، لم يُخضعوا طلب التغيير للسماح أو المنع، فالاحتجاجات تُقتَلَع بالدبّابات والمدافع والطائرات.
انتصرت الرأسمالية، ولا بد من الاعتراف بفضائلها، لقد قدّمت للعالم الوفرة والرفاهية والاستهلاك والإنترنت والأسواق المفتوحة والبورصة والجنس الحر وصناعة الإباحية… وها هي هوليوود تكرّس الأخلاق الجديدة، وتضرب بما كان أخلاقاً حميدة عرض الحائط، بل وتُدينها وقد يُودَع من يعارضها السجون. نادراً ما يخلو فيلم من المثليّين والمثليات الذين لم تعد حقوقهم وحقوقهن مهدورة، لا محلّ نزاع. بات على الناس مراجعة ما يظنّونه أخلاقاً فاضلة، بينما هو تزمُّت وانغلاق، والتوجُّه نحو اعتناق الأخلاق الجديدة، فتنميط الاستهلاك يوجِب تنميط الأخلاق.
” اتُّهمت الأخلاق بأنها أيديولوجية الخنوع والكبت والقمع”
هذا التبسيط يُخل بالحقيقة والعِلم، ويوقعنا في مأزق شعبوي، بدلاً من مراعاة قوّة التغيير وأحقيته، ليس لمقاومته، بل لئلا يتحوّل إلى مأساة، وربما في ضبط عشوائيته ما يتطلّب تفهّمه، فعلى سبيل المثال، حقوق المثليّين لا علاقة لها بالأخلاق، بقدر علاقتها بالحياة نفسها سواء كنّا معها أو ضدها، تستدعي أن تكون أخلاقية بين طرفين لهما الحق في العيش معاً، وليس لهما الحق في فرض ما يرغبون فيه على غيرهم.
إذا كنّا نعتقد بأنه لا حضارة من دون أخلاق، فنحن نعيش في حضارة بلا أخلاق، خاصة من ناحية النظر إليها قبل عقود وحتى الآن، منذ أطلقت ثورة 1968 الشبابية شعار “ليسقط أفيون الأخلاق، ولتحيا الثورة والحرية”، وكأنَّ الأخلاق تتعارض مع الثورة والحرية، مع أنه لا ثورة ولا حرية من دونها. اليوم يُؤخَذ على كاسترو وغيفارا وماو، أيقونات الثورة في القرن الماضي، الاعتقاد بالسياسة على أنها كلُّ شيء، ما أدّى إلى إعدامات ومَنافٍ وضحايا بالملايين منحتها الثورة صك البراءة، في حين اتُّهمت الأخلاق بأنها أيديولوجية الخنوع والكبت والقمع.
ثمّة حيز خاص امتدّ قروناً في مسيرة البشرية، كانت الأخلاق مطلوبة بموجب النواهي الدينية، وحتى بعدما حصلت تراجعات للأديان وطغيان الليبرالية المتوحّشة تحت عنوان “افعل ما تشاء”، بات ما نرغب فيه يتلاءم مع عدم الإيمان بالعالم الآخر، أي لا حساب ولا عقاب، ما يسوّغ جمع المال بشتّى الأساليب وحصد أرباح فاحشة.
أضفى ماركس العقلانية على الاقتصاد، بدفع الناس إلى تغليب المصلحة العامة على مصلحتهم الخاصة؛ ماذا كانت هذه العقلانية إن لم تكن الأخلاق، للتغلّب على أنانية البشر؟ لكنها اصطدمت بالرغبة في التسلّط، فغدت الشيوعية استبدادية، وفرضت بالقوّة ما عجزت الأخلاق عن تحصيله بالإقناع، بينما جهرت الرأسمالية بفلسفتها: “كونوا أنانيّين، اهتمّوا بمصلحتكم، وكل شيء سيسير نحو الأفضل”، وما عادت بحاجة إلى اختلاق مبرّرات أخلاقية كاذبة، ذلك أن الغرض من الحياة هو خلق الثروة. على أنَّ الثروة لا تكفي لصنع حضارة إنسانية، أو مجتمع يميل نحو العدالة.
ثمّة خطر يتهدّد الأخلاق، ما دام أنه يمكن التلاعب عبرها بالدعوات المبالَغ في التحرّر منها، وكأن الحرية تبيح القتل والتسلُّط، على أن يساندها القانون ولو كان زائفاً، بينما في الواقع تتحرّك في مهب رياح سياسات الدول ومطامع سياسييها. في حين أن الأخلاق هي الضابط للحياة والسياسة والعيش والحب.
-
المصدر :
- العربي الجديد