لم يقتصر النفاق على عصر دون آخر، شمل العصور كافّةً، فلا يتأسّفنَّ أحدٌ على زمن جميل مضى إلى غير ما رجعة، فالنفاق قادر على التخفّي، ولئلا ننخدع، نقول إن كل عصر مهما كان جميلاً، كان منافقاً أيضاً.
يحفل التاريخ الأدبي بهذا المرض اللعين، أُصيب به أدباء وشعراء، ومن ثمّ روائيّون ودراميّون، وطبعاً صحافيّون، التحق بهم محلّلون سياسيّون وغيرهم كثير. مهنة الأدب تطول كل من يحمل قلماً أو يفكّر، لكنها لا تصيبهم جميعاً. هناك شهداء في هذه المهنة، عدم مجاراتهم السلطات بالنفاق أودى بهم إلى السجون.
النفاق قديم، وُجد منذ سعى الإنسان وراء تحصيل طعامه، فاحتال على فريسته ليتمكّن من صيدها، فلبس قناع النفاق، وهو نفاق اضطراري مشروع يبرّره البقاء على قيد الحياة، وتزويد القبيلة بما يسدّ الرمق، وحذت البشرية حذوه.
هذه العلّة لم تفارق العالم، كمثال عليه قديم؛ بالعودة إلى القرن السادس قبل الميلاد، يُحكى أن شاعر الغناء الإغريقي سيمونيديس رفض أن يصوغ أغنية نصر لأحد الطغاة في جزيرة صقلية بمناسبة فوزه في مسابقات للألعاب الرياضية بفريق من البغال. بعدما تبيّن له أن ثمن القصيدة المعروض ضئيل، أقلّ من التسعيرة، فرفض وقال للمرسال الذي طلب منه القصيدة: “كيف أتغنّى بالبغال، وهي على أية حال من نسل الحمير؟”، ما يعني أنها لا تليق بقريحته الشعرية. فطن الطاغية للسبب الحقيقي فرفع الثمن إلى حدّ أنّ سيمونيديس نظم على الفور أغنية تصدّرها بيت يصف فيه البغال نفسها التي كانت من سلالة الحمير بأنها “سليلة خيول أصيلة وسريعة”.
يدّعي أصحاب كل عصر أنه تفوّق في الانحطاط على غيره
هذا أبسط ما يمكن أن نشهده، وإن بدا أقلّ أنواع النفاق إدانة، سار على نسقه شعراء من جميع الطبقات، بمدح أولي الأمر بما ليس فيهم غالباً، ولم يكن بالمستهجَن كثيراً، فالشاعر يثمّن سلعته وما كلّفته من جهد، مع أنه لا يُقاس، ويرفض الأعطية إذا لاحظ أن صاحبها أغمطه المقابل المجزي لها. اقتصر على نوع خاص من الشعراء، أُطلق عليهم شعراء البلاط. أغلب الشعراء، لم يصل بهم الشعر إلى بلاط ملك، أو يتح لهم مجلس وزير، فافتخروا بالمجد والغزو والحب والكرم وعزّة النفس، بينما شمل السعداءَ وصفُ شعراء النفاق.
بيد أن تخصيصه بالشعراء في حقل الأدب، نوعٌ من التجنّي، إذ لم يخلُ نوع من الأدب من هذه الآفة، وفي هذا مبالغة أيضاً، فلا مهنة في الواقع كانت منيعة عليه، ولم يتميّز عصر باختفائه، أو حتى بانخفاض منسوبه، يعود إلى طبيعة الشرور البشرية الأصيلة، فكان عادة ذميمة، لكن امتداداته من الخطر بحيث يلتبس مع الكذب والخداع والرياء، يبدو كأنه سببها أو هي سببه، كعنوان عريض على الفساد الأخلاقي الفردي.
ما الذي يؤدّي إلى ارتفاع وتيرة النفاق؟
كل عصر، يدّعي أصحابه أنه تفوّق في الانحطاط على غيره، غير أن الدلالة الأوسع هي أن الفساد يسري من عصر إلى عصر، لا يختلف إلّا في حجمه، والخطر عندما يصبح ظاهرة تشمل قطاعات المجتمع وأسلوب عمل وعيش، يتحوّل المجتمع إلى غابة، تنمو تحت ضغط الحاجة بين صغار الموظّفين، والعمّال، والباعة وسائقي سيارات الأجرة، والحرفيّين الذين يعملون في تصليح التمديدات الصحية والكهرباء والتجهيزات المنزلية. يجري التسامح مع الموظّفين في بعض بلداننا العربية، متطلّبات الحياة لا تسمح بدخل كاف يعيشون منه، فتحقّق الرشوة توازناً، مثله خداع البائع للشاري، وقد يبدو فساداً حميداً، تم تحت ضغط الحاجة، خاصة إذا كان العامل الفقير قد خدع المستهلك الغني. هذا إذا أردنا التبرير، مع أنه تبرير مصطنع.
يشير الفساد الحميد إلى أن الناس وجدوا منافذ للعيش، وتوسّلوا النفاق لئلا يعانوا شظف الحياة، وفي هذا ظفر يبقيهم أحياء، وربما يتنعّمون ببعض الرفاهية، لكن تحتاج إلى شطارة وقدرة على التحايل، فالنفاق يجعل الناس سعداء، ولو كان قبيحاً. بوسعنا القول عندئذ إننا نعيش في عصر النفاق، عندما يعم المجتمع، لكن الحقيقة لن ترضينا، ستجعلنا نشعر بالغبن، عندما ندرك أننا مثلما نخدعهم، يخدعوننا بالمقابل.
يتخفّى المجتمع على ما يرزح تحته، ويتوسّل تجميله بالأكاذيب، التجميل كسمة للخداع، يستحيل تمريره من دونه، ونادراً ما جرى الإفصاح عنه، لذلك لا غنى عن الأقنعة، والأًصح لا خداع من دون قناع منافق، كالنظام الفاسد، يتخفّى وراء الأقنعة، وهي عبارة عن شعارات طنّانة رنّانة. وكلما تغوّل، تغوّل معه الفاسدون الكبار والصغار، يصعب ارتدادهم، يُفسد الروح قبل اليد.
كتعقيب أخير، لم يقبل شباب الربيع العربي بعصر النفاق، أرادوا عصر الكرامة… وإذا كان النفاق قد انتصر، فلا يعني أنه تسيّد…. ولو أن الكرامة هزمت، لكنها لم تلفظ أنفاسها، فهي لا تموت.
-
المصدر :
- العربي الجديد