جرى الاعتقاد أن الرجال الثلاثة الذين غيّروا القرن العشرين هم ماركس وفرويد وأينشتاين، وأحياناً يضاف إليهم داروين. وهناك رأي آخر لا يستهان به، هو أن الرواية كانت الأكثر تأثيراً في تغيير العالم خلال القرن نفسه. فالأفكار لا تعدو إلا نظريات خاضعة للأخذ والرد، واردٌ دحضها، أو قابلية البناء عليها، لا تستقر فهي في حالة مراجعة، وربما تراجع عنها. وما يتولد عنها، أو يتوالد منها سواء رؤى أو فرضيات، ما هي إلا معالم تتقدّم على هديها البشرية.
استوعبت الفنون أربَعتَهم في ثناياها، وكان لها كبير الأثر في توصيل أفكارهم إلى العالم والتفاعل معها، بطرائق خاصة، سرية وخفية، تتغلغل في النفوس، فالأفكار ليست جامدة، لم تأت من فراغ، ولا تتحرّك في فراغ، قابلة للتأثر والتأثير، كما للانتقال من مجال إلى آخر، تتسلّل من خلال الفنون إلى الناس، ولا مبالغة في القول بأنها تمكّنت بهذه الواسطة من تغيير النظر إلى الحياة، ليس بالقسر ولا بدروس تعليمية، فالرواية مثلاً لا تلقي دروساً، ولا القارئ يعتقد أنه في مدرسة، لكنه في مدرسة فعلاً، ولو كان يمتلك الحرية في لفظ ما لا يريده، أو ما لا يرغب فيه. تعقد الفنون عموماً حواراً مع الذات دونما رقيب، ولا إجبار، فقراءة الرواية دعوة للتأمّل في المصائر والأقدار وطرائق العيش.
تهبنا الفنون من قصة ورواية وشعر ومسرح وسينما، حرية التفكير بشكل تلقائي، حتى من دون تعمّد التفكير، وترسم في دواخلنا ليس الأسئلة فحسب، بل التجرؤ أيضاً على إعادة النظر في ما استقرّينا عليه، لا تخلو من استجابات متواطئة، أو رفض صارم، يخفي ممانعة مجدية، أو غير مجدية.
الفن ليس بديلاً عن الواقع، ولا الواقع بديل عن الفن
قبل الرواية والمسرح والسينما، احتل الشعر الساحة كلها، وما زال لديه حصة فيها، أسبغ الشعر المديح على الأخلاق والخصال الحميدة، والفضيلة والثأر، والتأمّل في طبيعة خرساء، علمها الكلام، بل وتفلسف وهجا وأزبد وعربد. أبرز هبات الشعر، شدوه بالجمال والغرام والعشق والوله… كان إيقاعها موسيقاها. وقد يقال لولا رهافة الشعر ورقته، لما كان الحب العذري.
بث الشعر الحياة في الحياة نفسها، وأضاف إليها العمق الوجداني، ما لفت أرواح بشر حائرين نحو الإحساس بروعة الوجود ورحابته. لو قلّ نصيب الشعر في الأدب، فلا ينضبُ من الحياة، بات في نسيجها، يتردّد في الأسماع والشوارع والأغاني، لمساته لا تخفى في الرواية. وإذا كان قد خامر بعضنا الخوف من نهاية الشعر، بالنظر إلى طغيان الرواية ، فالشعر كان أصل حاجة الإنسان إلى الرحيل نحو سماوات أخرى. يثبت الفرنسي جان كوكتو حقيقة يصح الإيمان بها: “الشعر ضرورة، وآه لو أعرف لماذا” إنه الضرورة التي لا استغناء عنها.
في العقود الأخيرة، نفر الخيال من الواقع، وأخذ يتخبط بين العودة إلى التاريخ والاتكاء عليه، والذهاب إلى المستقبل على مركبة العلم، بينما الواقع يتقدم بخطى ثابتة، حتى أن الأدب سطا على السحر، وجيّر لعوالمه “الواقعية السحرية” لأدب أميركا اللاتينية. ما دفع بعض النقاد إلى التنبؤ باختفاء الفن، وحلول الواقع محله بالتدريج، بدعوى أن الفن في جوهره ليس إلا تعويضاً عن انعدام التوازن بين الإنسان والحياة، وطالما أن الواقع سيظفر بساحات الحياة، فلا حاجة للفن، لكن الفن ليس البديل عن الواقع، ولا الواقع بديل عن الفن، ولا بوسع البشر استبدال هذا بذاك، حتى لو تلاءم الإنسان مع محيطه، وهي نظرة متفائلة، لئلا نبدو متشائمين.
إن التوازن بين الإنسان والحياة، مستبعد حتى في المجتمعات المثالية، وما يحصل هو أن الإنسان يرى نفسه في مرآة الفن، هذه العلاقة بينهما، تنعكس على الحياة، وتضبط التوازن المستبعد من خلال التفاعل مع ما يطرأ على الحياة من متغيرات.
الفن يُشبع الحاجات المتوالدة مع تطوّر المجتعات، إنه حوار تتعدّد أشكاله، وكما ألمحنا قبل قليل، دروسٌ سرية وخفية، قد لا تكون لطيفة أحياناً، وربما غالباً، فالبشر مثلما يرغبون في بناء عالم جديد، يريدون تخريب العالم الذي يعيشون فيه. الفن وحده الفيصل الأول والأخير، في ما يصحّ وما لا يصحّ، إنه يرى أبعد مما تراه سياسات التقدّم الأعمى، من خلاله يعبّر الإنسان عن توقه إلى العدالة قبل الرخاء، كنوع من التوازن المنشود؛ إذ لا رخاء بلا عدالة، هذا جانب من جوانب الحياة المعقدة.
الجواب: الفن لن يختفي، إنه بصيرة الإنسان.
-
المصدر :
- العربي الجديد