صدر في العقود الماضية عدد لا بأس به من الكتب عن المكتبات، سواء عن علم المكتبات أو تاريخها، وأيضاً روايات كـ”اسم الوردة” لـ إمبرتو إيكو، و”مقبرة الكتب المنسية” لـ كارلوس زافون، و”المكتبة” لزوران جيفكوفيتش. كانت المكتبة عالماً من المعرفة البحتة، كذلك عالماً سرياً من الخفايا، تُدبَّر فيها المكائد، وتُدسُّ السموم، مكتبات تبدو بريئة، لكنها تشكّل خطراً، تجوس في أرجائها تحرّكات غامضة من جواسيس وعملاء، يعقدون لقاءات، أو يبحثون عن وثائق ومستندات، وربما شيفرة يَعتمد تفكيكها على التنقيب في كتاب عن السحر.
تعرّضت المكتبة لكثير من الشُّبُهات، حتى باتت المخاوف منها، تدعو إلى حرقها، لأسباب شتى. كما جرى التحفّظ عليها والدعوة إلى تحويلها إلى سجن للكتب، لئلّا تتمدّد إلى الخارج، وكأنها وحشٌ إنْ لم يُضبط فسوف تفترس المجتمع، فلا يسمح لها بالخروج منها، فهي لا تعدو إلّا أن تكون مكاناً لاحتجاز الكتب “الفاسدة”، ووضعها تحت الرقابة، ما يسمح بالتحكّم بالقرّاء والقراءة.
في الأدب، اعتُبرت مكتبة بورخيس من أشهر المكتبات، مما ضجّت به من خيال ملهم، ما أوحى له بمكتبة لا نهائية، هبطت عليه مترافقة مع تصميم قاعاتها، فهي تتألّف من عدد غير محدود من القاعات المسدّسة الزوايا مترابطة ومتداخلة، تتدرّج إلى غُرف تحتوي على رفوفٍ وكتُب في نظام عددي صارم، أغلبها مكوّن من نصوص غير مفهومة؛ “تضمُّ كلَّ ما كُتب في التاريخ وكلّ ما يُحتمل أن يُكتب. تتضمّن العناوين: التاريخ التفصيلي الدقيق للمستقبل، السِّير الذاتية لرؤساء الملائكة، الأناجيل الغنوصية وتفسيرها، كُتباً تفسّر كُتب التفاسير، القصة الحقيقية لنهاية حياتك، الفهارس الصحيحة للمكتبة، أُلوف مؤلفة من الفهارس المزوّرة، براهين الفهارس المزوّرة، براهين تزوير الفهارس الصحيحة”، وتحتوي كذلك على ترجمات لكلِّ كتاب وبكلِّ لغة… حتى إنه تخيّل الجنّة في صورة مكتبة.
ما الذي يجعل الكتب مَجلبة للشكوك وهي مجرّد ورق وحبر؟
أما مكتباتنا، فلا تشطّ إلى هذا الخيال المثير، تحتوي على رفوف صُفّت فوقها مئات الآلاف وربما الملايين من الكتب المتنوّعة من الأدب والفلسفة والتاريخ والسياسة والعلم والدين والفن. لكن لماذا يُراد تحويلها إلى سجن أو حرقها؟
إذا ابتعدنا عن الخيال الديستوبي، ففي العصور الوسطى قامت الكنيسة بحرق الكتب المهرطقة ومعها أصحابُها الهراطقة، كان بعضهم مفكّرين وعلماء. وقبلها حُرقت “مكتبة الإسكندرية” لحفاوتها بالفلسفة والفلاسفة. وضاعت مكتبات أثينا، ولم يفرط بما حوته من كتب. في العصر الحديث، أحرق الشيوعيون مكتبات الأرستقراطية القيصرية، وأُرسل أدباء وشعراء ومفكّرون إلى المنفى السيبيري، ما عدا الذين أعدموا. بينما أحرق النازيون الكتب واللوحات الفنية تحت عنوان “الأدب والفن المنحط” التي تدعو إلى حرية الفكر والبحث. وأحرق الأميركيون في زمن “لجنة مكارثي” الكتب التي تفوح منها رائحة اليسار. أما مُصادرة الكتب فلا تُستثنى منها دولة ولا نظام في العالم، مع العِلم أنّ الكتاب يخضع للرقابة الدائمة.
المكتبة إحدى جمادات أشيائنا، لم تتنفّس إلا لأنها من صناعة الإنسان، اختزن فيها ما سطّر من معارف، وما أنتجته البشرية من فكر وإبداع. فالطبيعة منحتنا الأشجار التي يُصنع منها الخشب، ولم تبخل علينا بالإلهام أيضاً، ثم جاءت المطبعة لينتشر الكتاب بالمئات والآلاف بعدما كان بالآحاد والعشرات، التي صار مكانها المكتبة وهي مكان محايد، ما الذي جعلها مجلبة للشكوك مع أنها لا تزيد عن كون الكتب من ورق وحبر؟ لماذا أخضعتها السلطات للشبُهات؟ طالما الإنسان يفكّر ويكتب، فالتفكير خطر على السلطة.
إذا شاع الاعتقاد بأن السلطة، أية سلطة، تحمل الحقيقة المُطلقة، فما حاجتها إلى الكتب الأُخرى؟ على هذا النحو حرقت كتب فولتير وروسو وسواهما من فلاسفة التنوير في فرنسا إبان العهد القديم، ولم يكتفَ أحياناً بإحراق الكتب وإنما بإهلاك مؤلفيها.
ليس القضاء على الكتب والمكتبات إلا لأن الافكار غير محايدة، إنها منحازة؛ لديها القوة على التغيير، ومثلما تنحاز للحقيقة، تنحاز إلى ضدها. ولا تعدم القوة على ترسيخ الحال على ما هو عليه، وتوظيفه لتجميد العقل؛ أفكار تشيد، وأفكار تدمّر. طالما كان الفكر التنويري ينحو إلى التغيير وتشييد عالم جديد، بينما الفكر الظلامي ينحو الى التدمير، فحارقو المكتبات يقرأون ويكتبون هم أيضاً، والأفكار تتصارع بين البناء والهدم.
دائماً يُحسب حساب القوة الهائلة للكتاب؟ ألم يغير “رأس المال” لكارل ماركس العالم، وتحت تأثيره كانت إحدى عوامل انتشار الشيوعية، وتحت تأثيره أيضاً جدّدت الرأسمالية نفسها وأصبحت أقلّ توحُّشاً وأكثر ديمقراطية.
أكثر من يخشى الكتب هم الطغاة، وحدهم الأكثر إدراكاً للقوة التي تختزنها في داخلها، وبنظرة ثاقبة وخائفة لا تخيب، يعرفون أنها تستهدفهم بالذات.
-
المصدر :
- العربي الجديد