أخذت مأساة الحرب السورية، شوطا بعيدا في مسألة الكتابة، فلم تقف عند استحضار الفاجعة في كافة صورها في المرويات، وإنما ساهمت أيضا في إنتاج نصوص تشبهها لا تخضع لنظرية النوع أو القوالب التجنيسية من ناحية، ومن ناحية أخرى نصوص كانت وفية للواقع في غرائبيته وألمه ما يجعلها وثائق حية لرصد المأساة الإنسانية، لكن هذا خلف نوعا من الرتابة في الكثير من الروايات التي لا تقدم أكثر مما تقدمه نشرات الأنباء، فيما نجد روائيين تمكنوا ببراعة من الإفلات من الحدث كما هو، على أهميته، لاستثارة ما أعمق منه زمنيا ومكانيا ونفسيا، عبر كشف شخصيات خفية تساهم في لعبة الحرب، ولا تظهر، وهو ما نقرؤه في رواية “يوم الحساب”.
يفنّد السوريّ فواز حداد في روايته “يوم الحساب” سردية النظام السوريّ التي ظلّ يكرّرها منذ أكثر من عشر سنوات، والتي تزعم أنّه حامي الأقليات في البلد ضدّ الإرهاب، وكيف أنّه يقوم بتوظيف الأقليات لحماية مصالحه، ويتّخذ منها دروعا بشرية يساوم عليها من جهة مع الغرب، ويرغمها من جهة أخرى على الوقوف خلفه ودعمه في حربه، بحيث يعدم خياراتها، ويبقيها رهينة ممارساته الإرهابية وسياساته التدميرية.
الراوي القابع في دمشق، المتخفي يعيش تناقضات البقاء والرحيل، يكشف الوجه الأسود الذي يغطّي به النظامُ المدينةَ التي يعمل على تغيير هويتها، بحيث يزيّف تاريخها وجغرافيتها، ليفرض عليها تاريخا ملفّقا مبنيّا على أكاذيب مكشوفة يراهن على أنّها ستتحوّل إلى حقائق واقعية بمرور الزمن وتراكم الحكايات، بحيث تتصدر سرديته وتطغى على ما عداها، وتكون ذريعته المستقبلية لنهب ما تبقّى من البلد ومن تبقّى من أهله الذين يتعامل معهم كرهائن لا كمواطنين.
كهوف الظلام
الكاتب يثري روايته بالكثير من النقاشات والأفكار التحليلية والفلسفية الموغلة في النفس الإنسانية، الكاشفة لنوازعها وخفاياها وهشاشتها
يكشف حداد في روايته، الصادرة حديثا عن منشورات رياض الريس بيروت 2021، حقد النظام على كلّ ما في المدينة ومن هم يعيشون فيها، وكيف أنّه لا يتورّع عن التنكيل بأيّ شخص يشتبه به، من دون أن يكون هناك أيّ رادع، وبشكل يضعه في هيئة منظومة مافيوية تنتهج أساليب الانتقام الماكرة في التعاطي مع من تعتبرهم أعداء وخصوما، ولا يهمّ إن كانوا مدنيين أو مسلحين، فكل من لا يخضع لها بنوع من الإذلال يكون في الضفّة الأخرى التي يجب أن يقضي عليها بشتّى السبل.
يواصل صاحب “تفسير اللاشيء” تشريح بنية النظام، كما في أعمال سابقة له عن الأوضاع السورية في ظلّ الثورة والحرب، وكيف أنّ هذا النظام يعمل دوما على ابتكار نسخة مشوّهة عن ذاته، يعيد تدوير قمامته من الشخصيات الإمّعة التي يستخدمها، ويقوم بتلميعها بين وقت وآخر، لتؤدّي مهامّ وظيفية محدّدة، ثمّ يتخلّص منها بشكل من الأشكال، وذلك بالموازاة مع إعادة استخدامه للشعارات التي يقوم بتصديرها وتوجيهها إلى الخارج والداخل.
الشابّ المسيحيّ المؤمن بالثورة، والحريص على مستقبل بلده، يعود من فرنسا التي كان يدرس فيها ليشارك في الثورة التي وجد فيها خلاص البلد من سلطة دكتاتورية توغل في دفعه إلى هاوية الاستبداد والتجهيل والتخلّف، وتنزع عنه صفاته لترسم صورة على مقاسها، وتناسب مراميها المتمحورة حول إدامة الخراب وتفعيل بذوره التي عمّمها على مختلف مناحي الحياة في البلد من عقود.
يتّخذ فواز حداد من جورج أيقوني رمزا لتصوير اللعنة التي أصابت البلاد بالنظام الحاكم، وكيف أنّه لا يتحلّى بأيّ مسؤولية أخلاقية، بل تكمن مسؤوليته الوحيدة التي يبدو أنّه موقوف لها، في حماية بنيته المخابراتية وأجهزته القمعية، ولا بأس إن كان ذلك على حساب خراب البلد، أو وضعه تحت احتلالات عدّة.
يكون البحث عن جورج أيقوني بوّابة للدخول في كهوف الظلام التي يهندسها النظام، ويثابر على إبقائها مفتوحة لتضييع ما يعارضه من السوريين، يتسلل من خلال بحثه إلى أقبية الأفرع الأمنية ويصوّر جوانب ممّا يقترف فيها من فظائع وجرائم، بالموازاة مع تفكيك بنيتها الإجرامية وإبراز عدم انتمائها إلى أيّ قيمة أو التزام.
يبرز الروائي أنّ الوطن الذي حلم به الثوار ظلّ مقبرة مفتوحة، وأنّ الحلم بالتغيير وُئد بأسلوب عدوانيّ لئيم لم يكن يتوقعه أيّ متشائم، بحيث تحوّل إلى دوّامة تغرق الساعين لأيّ تغيير، ويشير إلى التواطؤ العالمي المعلن من قبل قوى كبرى، وكيف أن سوريا أصبحت ملعبا لتصفية الحسابات وطاولة للمساومات، وكلّ ذلك على حساب دماء الشعب السوريّ.
في دوامة الفساد
يشير إلى أن الثورة التي تسبّبت بإخراج الملايين من ديارهم أعادت بعض المغتربين الحالمين بغد أفضل، وإن تسبّبت بموتهم وهلاكهم، إلا أنها كانت دليلا لهم على خارطة بلد يرومونه ويصبون إليه في يوم من الأيام، أو ما يجب أن يكون عليه من احتضانه لجميع أبنائه، ولائقا باسمه كوطن لا كزنزانة أو مقبرة.
رحاب؛ السيدة السورية التي تحمل الجنسية الفرنسية تعود للبحث عن جورج أيقوني، عن الطالب الذي تعرفت عليه وارتبطت به، وأعادها إلى بلدها الذي كانت تظنّ أنّها غادرته إلى غير عودة، وتكتشف بدورها صورة بلد آخر غريب عليها، بلد لم يكن يخطر لها في أسوأ كوابيسها أن يصل إلى هذا المستوى من الحضيض على أيدي الشبيحة الذين باتوا يتحكّمون في مفاصله.
هناك سومر العلوي الذي يعيش بدوره صراعاته الخفية والمعلنة، يراد له أن يكون غريبا عن ذاته ووطنه، يدفع للانسلاخ عن إنسانيته ليكون طائفيا مقيتا يلائم التصور الذي يعمل النظام على تعميمه وتصديره، يكون وفيا للثورة على الرغم من التقلبات والإحباطات والخيانات، يكون وفيا لفكرته عن الثورة التي آمن بها ووثق بأنها ستحمل خلاصا للبلد، وهو الذي عاد بعد وصوله إلى ما افترض أنه برّ أمان في الخارج، لكنه لم يتأقلم مع حياته بعيدا عن بلده، وفضّل العودة والبقاء والنضال مهما كلفه الأمر.
الأمّ المفجوعة التي تطالب الكنيسة بالتدخل للبحث عن ابنها والاستفسار عن مصيره، تقابل الأب جبرائيل الذي يكون بدوره نموذجا لرجل دين يحاول التكيف مع الظروف، ويعمل على النأي بنفسه وطائفته من غضب النظام، ومن توظيفه لها، لكنّه لا يفلح في البقاء على الحياد في بلد تسيل فيه أنهار من الدماء.
على الرغم من تردّده وتمنّعه بداية عن التورّط في قضية الشاب المفقود جورج أيقوني، لا يجد الأب جبرائيل بدّا من الانخراط فيها، فيبدأ بالبحث عن سبل للخروج بأقل الخسائر، يلجأ إلى البعض من رعايا كنيسته ممن يرتبطون بأجهزة النظام الأمنية، ويدورون في فلك عصاباته الاقتصادية ويساهمون في لعبته القذرة من حيث الاستغلال والابتزاز.
حصبوني يكون البيدق الذي يستعمله بعض أزلام النظام وزوجاتهم كسمسار يكون مفتاح الأب جبرائيل لفتح الأبواب المغلقة والتسلل إلى حقول الفساد والعفن التي عمّمها النظام ورعاها طيلة تاريخه، يكشف للأب جبرائيل خفايا الأعمال التجارية التي يديرها مسؤولون وزوجاتهم اللاتي يظهرن أقوى من أزواجهن، ويتحوّلن إلى سلطة موازية بدورهن، تكون لهن أعمالهن المزدهرة في واقع الحرب والخراب.
نهاية ملحمية
يثري حداد روايته بالكثير من النقاشات والأفكار التحليلية والفلسفية الموغلة في النفس الإنسانية، الكاشفة لنوازعها وخفاياها وهشاشتها وضعفها وخيبتها، وذلك من خلال بنية حكائية متقنة، وموظفة، وبعيدة عن الإقحام، بل يوردها في سياقات ملائمة يسلّط من خلالها الأضواء على الكثير من المناطق المعتمة في نفوس المهزومين والمنكوبين والمذعورين.
أين تفضي رحلة البحث عن جورج أيقوني بالشخصيات، وكيف تغيّر فيهم، تكون مراحل لا تقلّ أهمية عن الخاتمة، الرحلة هنا كاشفة عن أسرار وتفاصيل كثيرة، رحلة حياة على دروب الموت المتشعّبة في واقع البلاد.
لا أودّ هنا أن أسرد الخاتمة أو أكشف ذروة الحبكة التي أتقن الروائي نسجها وبرع في سبكها، لكن أشير فقط إلى الخاتمة الملحمية المؤثرة بشكل كبير، حيث يجمع الكاتب أمهات الشهداء اللاتي يعبّرن بأصدق ما يمكن عن صورة وطن جريج مكلوم.
يمزج حداد بقايا أجساد الثوار المدفونين في مقبرة المسلمين، بحيث يبقي البطل المسيحي المفقود أمانة حيث يكون، ولا يتمّ إقلاق راحته، بل يكمل الثقة والإيمان اللذين قاداه إلى بلده ليكون منتميا إلى جميع أطيافه وطوائفه.
ينشر بالاتفاق مع مجلة “الجديد” الثقافية اللندنية
-
المصدر :
- جريدة العرب