ما الذي جعل مثقفي الأنظمة يتنكّرون للشعب، مع أنهم يساريون وشيوعيون وليبراليون وعلمانيون وعلماء ومتعلّمون، وأيضاً مشايخ وفقهاء متنوّرون، ينبذون الطائفية والطوائف والمذهبيات والمذاهب. وفي زمن مضى، آمنوا بحق الشعب في الحياة بكرامة.

وجاء وقت استمدّوا منه ثوراتهم ونضالهم وقوّتهم وعزيمتهم وبأسهم وأدبياتهم ومقولاتهم وأشعارهم وأغانيهم ومسرحياتهم وتمثيلياتهم التلفزيونية، وأيضاً ما كسبوه من مال وما تقلّدوه من أوسمة. كان الشعب هو الحقيقة الوحيدة، وما عداه باطل، حتى إن الشيوعيين الذين أنكروا الله، نادوا بالشعب إلهاً.

يذهب المثقفون إلى أن الشعوب في منطقتنا متخلّفة، ظاهرة تكاد أن تكون عامة، وأن الأنظمة متقدّمة على شعوبها، فهي علمانية واسعة الأفق، تسعى إلى الارتقاء به رغماً عنه. إذاً ما الذي دفع الشعب إلى الثورة عليها؟ فهي لم تبخل عليه بامتيازات لم يظفر بها في العهود السابقة، وما الثورات التي أحدثها “الربيع العربي” إلا نكران للجميل. النِعَم التي أغدقها على الشعب، لم تكن مجرّد العيش بل ما يفوقه إلى الترفيه.

” الفساد يزيّت عجلة تسيير الدولة، لولاه لتعطّلت مصالح الناس”

ففي سورية مثلاً، أنعم النظام عليه بعطايا مادية دورية، تحت مسمى “مكرمة رئاسية”. وكافأه على مسيرات الولاء بزيادة أيام العطل الأسبوعية والقومية والوطنية. انعكست على المواطنين بارتياد المطاعم والاسترخاء ومشاوير السيارين، والتبطّر بتناول الوجبات الجاهزة، وارتداء الملابس المستوردة، ولو كانت مستعملة من “البالة”.

وإذا كان ثمّة غلاء، فقد غُضّ النظر عن الفساد، لم تعد منافعه تعود على كبار رجال الدولة وبطانتهم فقط، بل قامت بتعميم مردوده المجزي على جميع الطبقات، لم تستثن منه أحداً. فالفرد أصبح راشياً ومرتشياً في آن واحد. الفساد يزيّت عجلة تسيير الدولة، لولاه لتعطّلت مصالح الناس. تواطأ الشعب مع الفاسدين الكبار على ارتكاب ما يخالف القانون، ولم يتعرّض للمحاسبة، اعتبر بريئاً حتى تثبت إدانته؛ المساءلة كانت مؤجلة.

بين ليلة وضحاها، أصبح الشعب العدو اللدود للأنظمة، ما أودى به إلى أن يصبح منبوذاً ومطارداً بالقنّاصين والقنابل والدبابات والطائرات. انكشفت حقيقته، لم يكن سوى قطيع من الموظفين الخانعين، والعمال الكسولين، والفلاحين الخبثاء، وماسحي أحذية، وعمّال قمامة، متسوّلين وزعران، مهرّبي ممنوعات، ومتعاطي مخدرات، وأصحاب سوابق… أي خونة ومرتزقة، وعملاء مأجورون، يجب التخلص منهم.

لم يضطر المثقفون إلى التنظير بسحقهم، إلا بعدما أثبت الشعب أنه أصبح عبئاً على الدولة، فهؤلاء العوام الجهلة، الدهماء والغوغاء، حثالة تفرز عصابات مسلحة سلفية وأصولية، يعملون وفقاً لأجندات خارجية، يتظاهرون في الشوارع ويحتلّون الساحات، يحتجّون ضد الأنظمة التي أكرمتهم… فيا لمكر الشعوب!

يعمل المثقفون الموالون وفقاً لأجندات وطنية داخلية، أفلحت في إخضاع الشعب بالحديد والنار، وألقت به في السجون والمعتقلات. وإذا كان التنظير الثقافي قد طالب بحرمان الشعب من الحياة، فلكي لا يتحوّل الوطن إلى ساحة للحرية.

اقــرأ أيضاً