لن نحيل الجريمة إلى الفقر والجهل فقط، فهي منتشرة أيضاً في أوساط متعلّمة، لا تعرف الفاقة، وتشكو من التخمة، وقد نصادف جرائم ليست أكثر من ضرورة ترفيهية، مرتكبوها أناس لا ينقصهم شيء، وينعمون بأكثر مما يحتاجونه، وما يمارسونه من نهبٍ لا يسدّ لديهم حاجة ماسة، بقدر ما يوصف بالطمع الذي لا حدود له، ما يحرم الآخرين مما يسدّ رمقهم.
أمرٌ قد يحار علم النفس في تفسيره، إلا إذا كانت الحاجة إلى تكديس الأموال والملكيات بلا حساب مشروعة، باعتبار الجريمة جهداً محترماً ولائقاً يدلّ على الواقعية. وربما في أن تُعزى إلى الشر، ما يشكّل دفاعاً أقوى، يحيلها إلى غريزة لصيقة بالإنسان الذكي، تبرّر الخطايا السبع، ما دام أنها نتاج الطبيعة البشرية.
لا يمنح الدفاع عن الشر، الجريمة حقوقاً، ولو كان العالم يسير على هديها، إذ لا ينبغي لهذه الغريزة مهما بلغ بها الغموض، أن يكون ضحاياها بشراً مغلوبين على أمرهم، وكأنها استثناء يمنح صاحبها ميزة الاعتداء على الآخرين، مع أنها لا تزيد عن داء وبيل ومرض منحط، فالبطر لا يعالج إلا بالحرمان.
” الشر ضرورة عالمية في نزع الإنسانية عن البشر، توفيراً للشعور بالذنب”
في العقود القادمة، من المشكوك فيه، أن تشهد معدلات الجريمة المرتفعة تراجعات ملموسة، بقدر ما سوف تتابع تقدّمها نحو أكثر البقاع مناعة في النفس البشرية، فقد أمسينا في عالم يصح القول فيه، إن اللمسة الإنسانية تبدو جلية فيه، بتفاقم الشرور، وترسّخها في العقول المفكّرة من مثقفي كل زمان، اعتادوا على الإسهام في تأهيل السلطات الغاشمة، بابتداع ما يخدع شعوبها، كالحق الإلهي، وحقوق الإقطاعي، وامتيازات النبالة، والحق في التوريث. ومؤخراً ابتدعت صياغة، سقيمة وجائرة: سيّد الوطن.
لم تقف الديمقراطيات المائعة حائلاً في وجه الجريمة التي استغلت قوانين تتميّز بأنها مطاطة ومرنة، تسمح للمجرم بالتحايل عليها. أما قوانين الدكتاتورية، فأعطت لإرهاب الدولة تسهيلات إيديولوجية يسمح لها بالقضاء على طبقات برمتها، بذريعة العدالة الاجتماعية، وكان لمجاراة تقلّبات السياسة، ابتكار شعارات، تجعجع في بلادنا تحت عناوين المقاومة والممانعة المعطلة والباطلة.
ليست الجريمة مقتصرة على الداخل فقط، طالما أنها تأخذ طابعاً دولياً شاملاً، فالحرب كانت دائماً الجريمة الكبرى ضد الإنسانية، وإذا حققت في القرن الماضي إشباعاً غرائزياً لعدد من الإمبراطوريات والدول الاستعمارية، فلأنها كانت ممهورة بإجماع دولي على إشعالها والاستفادة منها.
أما الحرب السورية في عصرنا، فمثال قلّ نظيره على الولوغ فيها، بداعي إنهائها، بعقد المؤتمرات لإيجاد حل عادل لها، لكنها وعلى مدار ست سنوات، كانت الذريعة لإسباغ الشرعية على جريمة أصبحت كاملة ومفضوحة، باعتماد نظام مجرم وضعيف، متبجّح وتابع، كان في استمراره، استمرار للقتل والتهجير والنهب.
الشر ضرورة عالمية، ليس لتأجيج حروب وقودها شعوب بائسة فقط، فالحرب تبتدع أسبابها المباشرة، وإنما في نزع الإنسانية عن البشر، توفيراً للشعور بالذنب.
-
المصدر :
- العربي الجديد