بعد رحيلِ جيل الأدباء الكبار في العالَم، سارتر وطه حسين ومالرو وكامو وآراغون وبروست وفولكنر وهمينغوي… وأخذَ من جاء بعدهم بالرحيل أيضاً، فوكو وسيوران ومحفوظ ودريدا وماركيز والعجيلي والحكيم وإدريس… الأسماء الواردة غيضٌ من فيض، لا على التعيين، ومن حسن الحظّ، الكبارُ كُثرٌ.
إذا أردنا توضيحَ بعض الأمور التي تخصُّ الفكرَ والأدبَ الذي يُصنع ويُقرأ، فإنّ ما قدّمه سارتر في حقل الأدب فاق شهرة جهده الفلسفي في كتابه “الوجود والعدم”، ويُعزى إلى عالم الرواية والمسرح والسياسة في زمن انقسام العالم إلى معسكرين؛ مع الشيوعية وضدّها، أو مع الرأسمالية وضدّها، انقسم الأدب، من جرائِها، إلى الواقعية الاشتراكية والفنّ للفنّ.
أسهم سارتر بمصطلح “الأدب الملتزم”، فبدا كأنّه الحلّ الوسط بين التشدّد الروسي والمرونة الإمبريالية. تجلّى في الحرب الباردة بالانحياز إلى المعسكر الاشتراكي الشيوعي، مقابل المعسكر الرأسمالي. وإذا كانت البروباغندا الروسية قد دعمت هذا التفسير وشدّدت عليه، فإنَّ المخابرات الأميركية قادت حملةَ التنكيلِ به، فموَّلت مجلّات ولقاءات ومؤتمرات للترويج لدعاوى الفنّ النظيف الخالي من الأيديولوجيات بأنواعها، ولو كان إنسانياً، فاعتُبر طوال عقود أنّ الكتابة عن كلّ ما يمسّ الشعوب والنضال والدكتاتوريات يحمل دعاية أيديولوجية.
كان تعبير الأدبِ الملتزم فضفاضاً، بيد أنَّ الدعاوى الشيوعية والرأسمالية أسهمت، مجتمعةً، كلٌّ من طرفه، بتقييده بتوجهاتهما السياسية، مع أنّه من الممكن فهمه على أنّه التزام بالإنسان والإنسانية، وكلِّ ما يُتيح للبشر تحقيق تطلُعاتهم، ولا يقتصر على السياسة، بل يمتدّ إلى الدين والأخلاق والعلم، ولا يؤثّر سلباً على الحريات.
قدَّم سارتر مثالاً سيئاً عن الالتزام، وكان في الدفاع عن الشيوعية والتغاضي عن جرائم ستالين. فيما بعد سيُدين ما ارتُكب من تجاوزات في روسيا، ويُقدّمِ مثالاً جيّداً عندما لم يتأسّف على دفاعه عن الطبقات المسحوقة والعدالة الاجتماعية والحريات وانتقاد الرأسمالية والحروب واستغلال الشعوب.
الذين جاؤوا بعده من الأدباء، لم يقعوا في ما اعتبروه خطأً فاضحاً. ففي رأيهم، الأدب غير الملتزم أفضل من الأدب الملتزم، بالمعنى السياسي للكلمة. فالدعايةُ السياسية ديماغوجية تقضي على الإبداع الأدبي وتكون دائماً على حساب القيم الفنّية والجمالية. بينما الأدبُ العظيم يطرح أسئلةً جوهرية عن الواقع والوجود، لا أسئلة سياسية. وإذا كان لا بدّ من التطرّق إلى قضايا الإنسان وهمومه، فضمنياً، لا صريحاً ولا علنيّاً، لئلا يسقطَ الأدبُ في شراك الدعاية المباشرة التي تقتله. أي على الأديب التحايل عندما يتعرّض لها. وهكذا أصبح النضال مذموماً عند المثقَّفين.
هل يمتنع الكاتب عن النضال في الأدب لأنّه سياسي، لئلا يُحرجه إزاء الفنّ؟ يُحاكَم أيُّ عملٍ أدبيٍّ، ليس من خلال موضوعه فقط، فهو لا يهبه البراءة ولا الإدانة، إنّه جانب منه، وإنّما بالضرورة، كيف عبّر عنه، وهو سؤال الفنّ. لكن، لو أنّ للفنّ قواعد، لتقيَّدنا بها، وأرحنا واسترحنا. غير أنّه من فرط ما هو معقّد وبسيط في آنٍ، يكمن في العمل نفسه. كلُّ رواية لا يمكن أن تكون رواية لمجرّد أنّه كُتِبَ على الغلاف رواية، وإنّما عليها إثبات أنّها كذلك من خلال فنّ الرواية الغامض. إنّ الأخذ بالاعتبار أنّ الفن بطبيعته يعاني من الغموض، فهو رحبٌ وصعبٌ، لكن يمكن الإحساس به وملاحظته؛ لا اختلاقه، والشعور بأنّه منحنا ما نحن بحاجة إليه. بالمحصّلة لا يجوز تقييم أيّ عمل إلّا من داخله، وليس من الدعوى التي يدعو إليها أو يدافع عنها، مع أنه غالباً، وللأسف، القضايا الجيّدة تُفرز أدباً سيئاً.
في الجواب عن سؤال هل يصحُّ الالتزام في الأدب؟ نعم يصحُّ، ويصحُّ أيضاً ألّا يلتزم الأديب. هذا لا يمنع ذاك. والأدبُ ليسَ دعايةً انتخابية، ولا إدارة الظهر عمّا يعجّ به العالم من قضايا، ولنتذكر أنَّ الأدب والفنّ فضاء من الحرية، علينا ألّا نخسره تحت أي دعوى. فالأمر ليس الالتزام أو عدمه، النضال أو عدمه، بل الإنسان.
اليوم، كأنّ الأدب ما زال عالقاً في الحرب الباردة بين الروس والأميركان. إضافة إلى التبشير بحروبٍ أُخرى، في الواقع ما زالت الحروب ساريةً بين الكبار، مع إهمال حروب أُخرى يخوضها الطغاة ضدّ شعوبهم، فلماذا نحرم الضحايا من استعمال الأدب كسلاح، هل لئلا يُتّهم الكاتب بالالتزام؟
في أوكرانيا حالياً هناك من يكتب الأشعار والقصص ويرسم ويمثّل، فالفنّ أداة للتعبير، مثلما في سورية منذ أكثر من عقد، يُلاحَظ في الرواية والمسلسلات التلفزيونية استخدام الفنّ كأداة. إذا أُحسِن استخدامه فلن يضيع. دائماً يبقى القليل، ولا يمكن المراهنة عليه لمدّة طويلة. الزمن امتحانٌ صعب.