هل يتغير لبنان بعد الكارثة

بمجرد الإعلان عن بيروت مدينة منكوبة، بوشر في التحقيق لمعرفة ملابسات تفجير المرفأ. ضخامة الحادث، استدعت دعوات لمشاركة دولية في التحقيقات، وكانت من جهات لا تثق بقدرة الحكومة على رعاية تحقيقات نزيهة، إذ لا يستبعد تعرض المحققين المحليين لضغوط غير قادرين على التصدي لها ولا تجنبها، هذه النداءات رُفضت، السيادة اللبنانية، فوق الحقيقة، ولم يعد موثوقاً من إجراء تحقيقات تخلو من الشبهات، بعدما بات كل شيء في لبنان ممسوساً بالفساد.

قرار المنع اتخذ وجرى التوافق عليه، وربما من دون اتفاق، وأسبغت عليه الحكومة الحصانة والشرعية، وحتى الآن يبدو ألا متهم، تصريحات حزب الله وإسرائيل، أكدت أنه مجرد حادث. لكن المنع لم يمتد إلى الفضاء الإلكتروني؛ بقعة الحرية الوحيدة في العالم العربي. فدارت على صفحات شبكات التواصل الاجتماعي، نقاشات وجدل، ووجهت اتهامات لم تلق جزافا، وإن كان من جهات غير مؤثرة، لديهم وجهات نظر قوية، اتهمت المجرمين البريئين إسرائيل وحزب الله، بالتسبب في التفجير، لن يؤخذ بها لأن من أطلقها أشخاص عاديون، وإن كانت الأدلة قوية مع الكثير من الشواهد حول سيطرة حزب الله، على مرفأ بيروت، فبضائع الأسلحة القادمة من إيران، كانت تدخل وتخرج من معبر خاص، كذلك وجود مستودعات لتخزينها، من دون رقابة سوى رقابة أمن الحزب، لديها الصلاحية لطرد أمن الدولة ومخابرات الجيش من محيطها. كما أنه بعد وقوع الانفجار اتخذ الحزب إجراءات أمنية مشددة إضافية، بانتشار عناصره في المنطقة، ومنع القوى الأمنية وفرع المعلومات ومخابرات الجيش من الدخول إليها. فالمسؤول حزب الله بحكم سيطرته على المرفأ، بالتالي لن يسمح للتحقيقات أن تأخذ مجراها الطبيعي، وإن نفى مسؤوليته.

المتهم الثاني إسرائيل التي لم تفتر حملتها ضد الوجود الإيراني في سوريا، مع أخذ الاحتياطات من حزب الله في لبنان. وقد شاعت إثر الانفجار فرضية تعرض المرفأ لقصف صاروخي من قبل طائرات إسرائيلية، مع أن الرادارات في لبنان، لم ترصدها قبل الانفجار وبعده في الأجواء اللبنانية. كان الرد بأن لدى إسرائيل طائرات تستطيع أن تتخفى عن الرادارات اللبنانية التي لا تستطيع التقاط إشارات تنم عن وجودها في الجو. أما هدف إسرائيل من الغارة فإرسال رسالة لحزب الله تحذره من خرق اتفاق السلام بينهما، وربما لم تتقصد العنبر ١٢، أو تتوقع انفجاره بفعل الحرارة، لذلك سارعت ونفت مسؤوليتها عنه بسبب الشهداء المدنيين والدمار الهائل!

هل الإنكار المتبادل بينهما يدل على تواطؤ، رغم ما قد يعلنانه عكس ذلك ربما في قادم الأيام؟ بصرف النظر عما يريدانه. أو عن براءتهما أو مسؤوليتهما، يضع الحادث كليهما في دائرة الاتهام، ومثلما هناك ما يدينهما هناك ما يدفع الاتهام عنهما. ولا ريب في أن لدى كل منهما الدافع ومجال الوقوع في الخطأ ووسائل الإنكار، لكن الكارثة لا أقل من جريمة كبرى، لذلك التنصل منها قد لا يُتراجع عنه. لا سيما أن الحكومة اللبنانية من جانبها لم تتهم أي طرف، وبرأت المشبوهين. ولمحت إلى أنه لا يعدو إلا إهمالاً في التخزين، بعدم اتخاذ إجراءات وقاية. خاصة أن التحقيقات المسربة كشفت أن الشحنة بمجرد وصولها إلى بيروت كانت الإجراءات التي لازمتها قانونية، من ناحية توقف الباخرة، ومصادرة الشحنة وتوقيف البحارة، وتحويل أمرها إلى قضاء الأمور المستعجلة عدة مرات، وعدم صلاحية القضاء للبت بأمرها. وقيام الجمارك بالتحذير منها، وطلب إعادة تصديرها، حتى أن التحذيرات تكررت مرارا، آخرها قبل أشهر قليلة، كان فحواه؛ إن لم تنقل الشحنة فسوف تفجر بيروت كلها. أي أن ما جرى هو التقاعس والتقصير في التخلص من مادة خطرة جدا، شديدة القابلية للاشتعال.

الجميع أبرياء، مع أن كلاً منهم يتحمل قدراً كبيراً من المسؤولية، والأسباب لا تعفي أحداً منهم، لا يمكن إهمال التساؤلات حول صعوبة تفجير المواد في ظل ظروف التخزين العادية من دون حرارة شديدة الارتفاع، أو عن توفر صاعق، أي لا يمكن حدوث التفجير من دون وسيط، ولا تجاهل ما قاله قبطان الباخرة عن محاولته على مدار ست سنوات تقصي المعلومات لمعرفة من الذي كان في انتظار وصول شحنة نترات الأمونيوم في موزامبيق، ولم يتمكن من معرفة من الذي دفع الملايين ثمنا لهذه الشحنة، ولم يعد يبحث عن بضاعته، أو يعمل على تحريرها من المرفأ.

تطرح الكارثة اللبنانية كثيراً من الأسئلة دونما جواب، ليس لأن الحادثة لم يمض عليها بضعة أيام، بل لأنه إذا كان هناك فاعل، فقد أحكم تدبير فعلته منذ سنوات ليوم موعود، واتخذ الاحتياطات اللازمة لئلا تنكشف. خاصة أن تمييع الكارثة بدأ منذ اللحظات الأولى، وشاركت فيه الكثير من الأطراف، وحصل التشكيك في الفاعلين الأكثر احتمالاً، بتغطية تكاد تكون كاملة ومسبقة ما زالت تساير تبرئتهما.

إن اختلاط الحقائق بالأكاذيب، يشجع على المزيد من إضفاء الغموض، بحيث سيأتي اليوم الذي ستنحو فيه التحقيقات إلى أن سبب التفجير بالدرجة الأولى القضاء والقدر، ما يسقط المسؤولية عن الجميع، مجرد إهمال استمر طويلاً، حتى أنه لم يخطر لمسؤول واحد القيام بفعل جدي لتلافيه طوال ست سنوات!!.

يحيلنا الحدث اللبناني المؤلم، إلى ما لا يمكن تفاديه وهو العطب اللبناني، وإذا رددنا الكارثة إليه، فلن يستثنى رؤساء وحكومات وأحزاب وسياسيون ومحللون محترفون وسماسرة ومسؤولون كبار وصغار… غارقون في الفساد المالي متآزراً مع انحيازات طائفية. وإذا تساءلنا فيما إذا كان هناك خلاص للبنان، فلا بد أولاً من إيقاف هذا المسلسل من التردي إلى حد قد يذهب بلبنان، بعدما طال العاصمة وكاد أن يأتي عليها. ولن تنصلح أحوالها إلا بتصحيح الخطأ الأكبر، إذا كانت العقلية الطائفية ستواصل توارث لبنان، فالمستقبل مشكوك فيه، إن لم يكن كارثياً، نتيجة ماض صورته هذا الحاضر.

لن يؤمل كثيراِ، فالتوريث هو الفساد، وها هو جارهم السوري، يتعلم منهم ويتعلمون منه، ولا نجاة لأحدهم إلا بنجاة الآخر، لا اللبنانيون أسوأ من السوريين ولا السوريون أسوأ من اللبنانيين، كلاهما في مركب واحد، وهذا المركب في حالة غرق متواصل.

وليتذكر السويون واللبنانيون معاً، أن الجيش السوري دخل إلى لبنان بحجة إنقاذهم، لكنه قتلهم وشردهم وداس على كرامتهم، وحزب الله دخل إلى سوريا بحجة إنقاذ السوريين، فقتلهم وشردهم وداس على كرامتهم. هذه أنظمة سواء تشابهت أو لم تتشابه، متكافلة ومتضامنة معاً. الجوهر واحد، إنها أنظمة مجرمة يضمن لها الفساد طول البقاء.

قيل الكثير عن لبنان قبل وبعد: قبل المحن وبعدها، ودائما الأسطوانة نفسها؛ لن يكون لبنان بعدها كما كان قبلها، ودائما يثبت لبنان أنه لم يتغير، ولن يتغير، ما داموا هم أنفسهم يحكمونه ويتحكمون به، هناك سلطة مهما تبدلت فهي نفسها، تتسع لمختلف أنواع الفساد، يساندها زعماء من خلفهم ملالي ودكتاتور، يباركهم شيخ وخوري.

FacebookTwitterWhatsAppEmailنشر