قيل الكثير عن الثورة السورية التي أصبحت “أزمة” حسب التعريف الأخير، بعد أن مرت بتسميات ما كان أكثرها، فإضافة إلى ما سبق أطلق عليها؛ انتفاضة، احتجاج، تمرد، إرهاب، مؤامرة، حرب أهلية، صراع إقليمي… لا يعني أن هذا الحدث مطواع لكل هذه النعوت، بل لأن كل طرف ينظر إليه من منظاره الخاص، منظار المصالح والمنافع والتسلط والأحقاد، وأيضاً العدالة والحريات.
ما زال الوقت مبكراً لتقييم ما يجري موضوعياً، أي النظر إليه نظرة تليق بحدث هائل الحجم والتأثير ومتعدد الأبعاد. بداياته لم تكن إلا هبة من أجل الكرامة، تذكر السوريون أنهم خضعوا لحكم المخابرات، وتعرضوا للإذلال نحو أربعين عاماً، ما شكل معاناة القسم الأعظم منهم، فعمت الاحتجاجات البلد.
في المقابل كانت حرب القتل والتدمير، التي أمسينا فيها. اختار النظام أن يكون نموذجاً للقسوة المتطرفة، حسب برنامج من السحق المتواصل والمتصاعد، باستعمال الأسلحة كافة، إضافة إلى التلفيق والكذب والتشهير بالأعراض وقصف البيوت فوق سكانها، وتدمير المساجد والأفران… كانت برأي المراقبين “الواقعيين” أعراضاً جانبية للصراع، ارتكبت بفعل حرب لا تميز بين المسلحين والمدنيين، إذ أن الحرب مصابة بالعمى على مر العصور.
أما المعارضة بتشكيلاتها السياسية والعسكرية، فلم تكف عن الانقسام والتشتت والتشرذم… كانت برأي المراقبين “الواقعيين” أيضاً من إيجابيات حرية التحزب والتجمع، بعد عقود أربعة من الحجر على الأفكار والأنفاس، غير أن المعارضات استثمرتها بخلافات ضارية، حتى أصابها الإعياء، أدى إلى ما نراه جلياً في هذه الأيام؛ تحلل سائر نحو الضياع بلا هدف سوى المزيد من الخلافات بحثاً عن المناصب والمنافع، مخلية الساحة لكل ما يخطر وما لا يخطر على بال، فلمنظمة القاعدة أكثر من فرع واحد، وللجماعات الأصولية الإسلامية ممثليات تشمل أنواعهم المتشددة وغير المتشددة في العالم، إضافة إلى عصابات الإجرام والخطف والسلب والنهب.
الثورة ليست أيقونة نركع لها ونسجد، البشر هم الأيقونة، والثورة تقوم من أجلهم، عندما تنأى عنهم، أو لا تبالي بمصائرهم، تفقد ماهيتها. المؤسف، أنه حتى الثورات التي قدمت الخبز مع العدالة والمساواة، ارتدت على شعوبها بالعسف والقهر. لا شيء مضموناً في الثورة قد تذهب بأبطالها إلى المقصلة، أو المشانق أو الإعدام الميداني، وأيضاً سدة الحكم.
لو نظرنا نحن السوريين اليوم إلى وجوهنا في المرآة، فلن يكون منظرنا ساراً، هذا إذا لم ننكر ما أمست عليه صورتنا من تشوهات انكشفت جراء تعرضها للضوء المبهر بعد عقود من الظلام الدامس، وحريات هبطت علينا فجأة، ولو كانت تحت القصف والمداهمات. كانت من محاسن الفوضى التي ولغنا فيها، واستثمرناها إلى حدودها القصوى. فالثورة أرض صالحة لاستنبات كل ما هو خير وكل ما هو شر. وكانت الفوضى فضاء الحريات الطليقة من القيود، مع أن القيود ليست إلا توخي الشعور بالمسؤولية نحو بلد يذهب إلى الدمار ويتشرد سكانه في الداخل والخارج.
ليس سهلاً على السوريين اكتشاف أن لديهم مخزوناً من الكراهية يدفعهم الى القتل من دون إحساس بالذنب، ما يوجب علينا مواجهة هذا الكم من الأحقاد التي نتبادلها دونما رادع، كما يحتاج إيقافها إلى عقل وضمير وشجاعة غير متوافرة حتى الآن. لماذا تفجر الربيع على هذا النحو من الجحيم؟ ما الذي جرى للسوريين؟ السؤال… هل هذا نحن؟
أصبح كل فرد منا دولة، تحكم وتحاكم وتعاقب، وعصابة تقتل وتذبح وتمثل بالجثث، بعد أن كنا بأجمعنا لا شيء إزاء سلطة محقت الذات والاحساس معاً. أصبح التعرف إلى أنفسنا مستحيلاً تحت طبقات متراكمة من العداوات، وكأننا نسينا أو تجاهلنا، أن كل واحد منا كان مقيداً إلى عجلة دولة، الصمت هوالأمان الوحيد فيها.
اليوم سورية خراب، وموعودة بخراب أكبر… فلنرثِ ما آل إليه حالها وأحوالها. هناك رواية للأفريقي آلن باتون، سأستعير عنوانها كخاتمة : “إبك يا بلدي الحبيب”، لم يعد لك إلا البكاء..
يحق لسورية أن تبكي هؤلاء الذين قتلوا من أجلها، ماتوا لتعيش، ولم يموتوا لتموت.
-
المصدر :
- المدن