بعد عام من التراجعات والتعثر لقوات المعارضة المسلحة، جاء تقدمها المباغت على عدة جبهات، ليزيل سوء الحظ الذي لازمها، ويرفع منسوب النصر العاجل إلى أقصى مستوياته. مع أنه لا يمكن نسب تقدمها للحظ، وإنما للقوى التي تشد من أزر هذا الصراع أو تحبطه، كذلك وبلا أدنى شك لعزيمة المقاتلين وإصرارهم وإيمانهم بقضاياهم، إذ أصبح لجماعات المعارضة أكثر من قضية محقة حسب منظورهم، وبعدد توجهاتهم. غير أن هذه الحرب لم تعد تعبأ بالقضايا محقة أو غير محقة، الجهات الإقليمية والدولية وضعت ركائزها القوية خلال أربع سنوات بحيث بات من المستحيل أن يتراجع أي طرف منهم عن استراتيجيته في الازمة السورية، إلا تحت ضغوط قوية تغير المعادلة بشكل جذري، فما زال التقدم والتراجع في الحرب يخضع للكر والفر، طالما أن الدعم الخارجي المتبدل يشكل رافداً مهماً للنصر والهزيمة، لو أن الثورة السورية والنظام تركوا لمصائرهم، فلن يصمد النظام بجيشه وأجهزته الأمنية والموالين له، أمام بحر من المحتجين الغاضبين يمتلكون الحق بالحرية سوى زمن لا يتعدى الأشهر على الأكثر، كانت سورية مهيأة للتغيير، غير أن تدخل الداعمين الخارجيين لم يكن متوازناً، فالروس والايرانيين كان دعمهم للنظام مطلقاً، في حين لم تحظ المعارضة إلا بدعم محدود ومتردد على الرغم من أن “أصدقاء سورية” تجاوزوا الثمانين. كما أسهمت “داعش” في اضعاف المعارضة، وتراجعت الآمال التي بنيت على “النصرة”، في فك ارتباطها بالقاعدة، والدخول في نسيج قوى المعارضة الوطنية. كذلك غلب على الفصائل المساحة الطابع الإسلامي، فالجهادي. فلم يبق من ثورة الكرامة إلا القليل، لكنها مازالت تقدم الشهداء.

ولقد كان للأمريكان الفضل في التلاعب بالدعم بحيث ارتد على المعارضة بالنكسات، والتلاعب أيضاً بالتصريحات، فما يطلقه البيت الأبيض، كان يقصد عكسه، حتى جاء الوقت وتخلى أوباما فيه علناً عن وعوده بمساعدة السوريين، تلك التي لم يلتزم بها أصلاً. مؤخراً كما يبدو لبعض المحللين، كشفت أمريكا عن نظرتها الاستشراقية للمنطقة، حسب تنظيرات برنارد لويس القديمة، بإعادة البحث في مشاريع لتقسيم سورية والعراق، فلم تعد “داعش” و”النصرة” واشباههما إلا المحفز على نقلها من الخرائط إلى الأرض. ويمكن تفسير انسحاب النظام من بعض المواقع وتمكين “داعش” منها، كذلك المنظمات الكردية من احتلالها تنفيذاً لمخطط ينحو إلى تحويل سورية إلى دويلات أو اقطاعيات وكانتونات للأقليات الدينية والمذهبية والعرقية، وبهذا لا تخسر إيران حربها، طالما ستكسب جمهورية على الساحل السوري، خاضعة لها وخالية من أعباء الداخل.

تجهد إيران إلى أن تكون طرفاً فاعلاً في تصفية سورية إلى دويلات، لاسيما أن الأمريكان يتواطؤون معها لتمرير الملف النووي، كما أن لها رأيها في المنطقة التي ستوكل أمورها إليها بالتفاهم مع إسرائيل، وإلى حد ما تركيا في حال رتبت أمورها الداخلية. لذا ليس غريبا بروز “عاصفة الحزم”، فهي لا تعني اليمن فقط، النزاع في اليمن امتحان عسير، السعودية ليست مخيرة إزائه، إنه مدخلها إلى المنطقة كلاعب لا يقل شأنا عن إيران، كما أن الجولة الحالية في سورية، للسعودية النصيب الأوفر فيها، وإن كان تدخلها على حذر، مدركة أن إيران غير مستعدة للتنازل عن استراتيجيتها السورية، ولابد أن تسارع، إن لم يكن قد سارعت فعلاً إلى تحشيد قوات كبيرة من الميليشيات المذهبية لحماية النظام السوري. هذا بينما الموقف الروسي غير واضح تماماً، يتأرجح بين تصريحات بوغدانوف الذي وعد بتقديم المزيد من الدعم للجيش السوري. ومن ناحية أخرى، إعادة النظر في موقفهم، ربما يحدده ما سينجم فيما بعد عن زيارة وزير الدفاع السعودي، وهو ليس بالحجم الكبير، إذا كان النظام سينهار، فالتفاهم الروسي مع السعودية، سيحسن فرص الفصائل المعتدلة، بما يعود على الروس في حال إيقاف الدعم الدبلوماسي للنظام بالمحافظة على موقعهم في سورية.
سواء كان هذا التحليل على صواب أو على خطأ، لا يمكن استبعاده، طالما أن الحرب تأخذ مسارات تتجه إليه، فمن جانب ليس مسموحاً لأي طرف تحقيق نصر عسكري حاسم، إلا بعد توافق القوى المعنية. الأمر الذي يخافه السوريون هو أن انتصارات المعارضة وهزائم النظام تدور ضمن إطار رسم الحدود القادمة، ما يشير إلى عملية تقسيم للجغرافيا السورية تجري في الكواليس، ستأخذ في المستقبل، فيما لو كان هذا السيناريو المفترض وغير الخيالي صحيحاً، موافقة المجتمع الدولي من خلال قرارات ملزمة، فالمكيدة ينبغي ان تكون كاملة وممهورة بقرار دولي.