شكَّل الماضي محورَ جدل كبير في أوساط الأدباء والفنّانين وانقسموا بين متحمّسين له، وساخرين منه، ولو ساورنا الظن بأنّ الأغلبية يرومون رفضه كتقليعة لإثبات قدرتهم على صناعة أدب وفن منقطعَين عمّا سبق، وكأن حاضر زمانهم، لن يصبح ماضيًا هو الآخر، ولن يكون ملكًا لهم، إن لم يتخلّصوا أولًا من الماضي بكامل حمولته.

ويمكن أن يُعذروا في عدم الامتثال لهذا التاريخ، فحاولوا تحرير أنفسهم منه، وصنع تاريخهم الخاص… لكن ليس بقتله ولا بتشييعه، خصوصاً أنَّ مثواه حسبما يرغبون، في قبور مجهولة، لا في المتاحف والمجلّدات.

ليس الحاضر لقيطًا، وفي نكرانه، يتماثل مع نكران الابن لأبيه، وكأنَّ عظماء التاريخ الإنساني، لم ينجبوا أولادًا إلّا كي يكبروا ليقتلوهم، وكأنَّ في عقوقهم الحميد ما يهب الحياة لممارسة القتل والوأد.

كأنَّ عظماء التاريخ لم ينجبوا أولاداً إلّا ليقتلوهم

يذهب الفرنسي أنطونين آرتو، المخرج المسرحي والشاعر السوريالي، بعيدًا في التعنُّت ضد الماضي. حسب دعواه، لا يستحق الشعر الكلاسيكي، أن يُقرأ إلّا مرّةً واحدة، ثم يجب تدميره: “فليُترك المجال للشعراء الأحياء، ولنتخلَّص من الروائع. إنّها جيّدة لأهل الماضي، وليست جيّدة لأهل الحاضر”. إذا أردنا تفسير شطط آرتو، وعدم المبالغة فيه، ففي الاقتصار على قراءتها مرّةً واحدة خشيةٌ من الوقوع تحت تأثيرها. بينما بالنسبة إلى الفرنسي رينيه شار؛ ينحو الشاعر إلى قتل نموذجه، كي يخلق نموذجه الخاص. ويسهم أندريه بروتون عميد السورياليّين باستبعاد الماضي: “ليس لنا حاجة إلى الأسلاف. يجب تحدّيهم ولو كانوا عظماء”.

أكثر من وقف سدًّا منيعًا بوجه الماضي، كان الحركة المستقبلية، ويُعدّ بيان الفنّانين المستقبليّين الإيطاليّين المثال الأكثر فجاجة على العداء للماضي: “نريد أن ندمّر عبادة الماضي، والهوس بكل قديم، والتحذلق والشكلانية الأكاديمية. دعوا الموتى مدفونين في أحشاء الأرض السحيقة. اتركوا عتبة المستقبل نظيفة من المومياوات. أفسحوا الطريق لفن قوي وجريء؛ الفن المستقبلي”.

تتشابه الانتقادات المضادّة لعبادة الماضي، وفي النهاية تتطابق، فالماضي ميت والمستقبل حي، ولا يمكن حبس معنى جديد في قوالب الماضي. ويجب على الأدباء والفنّانين أن يخلقوا عصرهم، لا أن يعكسوا عصرًا انقضى. وهذه الانتقادات تبدو عادلة، لكن رغم كل شيء يشوبها ما يعبّر عنه الشاعر والمسرحي الفرنسي غيوم أبولينير، بالإشارة إلى الازدواجية التي يقع الفنّان أسيرًا لها، إذ لا يمكن له حمل جثّة أبيه أينما ذهب، بل يتركه برفقة موتى زمانه، مثلما يجب على الابن، عندما يصبح أبًا، ألّا يتوقّع من أولاده مرافقة جثّته مدى الحياة. لكن في النهاية، مهما فعل، يبقى ملتصقًا بالأرض التي تضمّ الموتى.
مرّ زمن على ما دُعي بـ”عبادة الماضي”، وكان بالارتداد إلى التراث الإغريقي، باعتباره مثالًا تتقزّم بالمقارنة معه إنجازات العصور الوسطى التي سيطرت عليها العقائد المتزمّتة والتقاليد الجامدة والخرافات، وكانت حضارة اليونان من أسباب النهضة الأوروبية. والآن جاء الوقت ليتخلّصوا من تراث الأجداد والآباء، على الرغم من انتمائهم إليه، وتعلّمهم منه، وتتلمذهم عليه، وكانت ولادتهم في سياقه.

في الجانب المقابل، يلخّص الروائي الأميركي وليم فولكنر العلاقة بين الماضي والحاضر، بأنّ الماضي ليس ميتًا، وليس بماضٍ، يكمن في ثنايا الحاضر والمستقبل، بعقد منعقد بينهما لا انقطاع معه، بل تواصُل. كان فوكنر من الأدباء الذين يرتاحون للماضي، ليس في منافسة معه، ولا في معرض استنساخه، ولا مبرّر لإصدار أحكام الإعدام عليه. رأى الماضي ملهمًا، وكان انبعاثه ليس كأجداد محنّطين، بل أجدادٍ معاصرين.

متح فوكنر من الماضي مأساة الجنوب الأميركي وانهيار القيم الأخلاقية والإنسانية تحت وطأة غزو الشمال الأميركي. أحياهم في رواياته الكبرى: “سارتوريس” و”الصخب والعنف” و”بينما أرقد محتضرة” و”نور في آب”. اعتمد على وقائع التاريخ والحياة الأميركية، بل ورأى في مأساة الجنوب مصغَّراً لما حلّ بالعالم من فوضى أخلاقية وانحلال اجتماعي تعبّر عن المأساة الكونية.