كثيراً ما تستوقفنا في معارض الفنّ التشكيلي الحديث ملاحظة جهد النقّاد في شرحه، وتأكيد وجهات نظرهم، من خلال إنجازات بعض الفنّانين، وغالباً ما تشير هذه المحاولات إلى أنّ هذه اللوحة أو عمل هذا الفنّان لا يطاوله الفهم الشعبي، أي لا يخضع فهمه للمنطق المتداول، ولا للتصنيف المتعارف عليه، مع أنّ الأعمال الفنّية لا تعدو كونها منتجات بشرية، تُصنع كي تُباع، وتُشترى لغايات متنوّعة، فتُعلَّق على جدران المنازل أو المتاحف، وتُحفظ في الخزائن. أي أنّ الفنّ، من حيث الجوهر، قابلٌ للاستهلاك في المعرفة والمتعة، والاستثمار أيضاً، فأسعاره في ارتفاع، وطالما أنّه وسيلة خيالية لنقل الأفكار والمشاعر، يُفترض إدراكه والإحساس نحوه بشعور ما، فلماذا جعْله عصيّاً على الناس العاديين؟
في الواقع، لا يُنظر إلى الفنّ الحديث من منظار هؤلاء الناس، فالكثير من النقّاد ومعهم فلاسفة الفنّ يزعمون أنّ التجربة الفنّية تسمو عن الوصف، وتتجاوز بطبيعتها الفهم العقلاني. هذه النظرة، بمعنى ما، تحطّ من شأن العقل، وتُسلّم بهزيمة المعرفة إزاء خصوصية الفنّ.
يتميّز هذا التعبير بالصرامة في الدفاع عن حداثة الفنّ، من دون توخٍّ للغموض، ما دام عدم الفهم هو شرطه، وجعله للخاصّة فقط، فهو لا يحتاج إلى كثير كلام ولا إلى حجج، فالكلام يتضمّن فكرة، الفنّ عدوّ الأفكار، سمعة الفكر مرتبطة بالأيديولوجيا، وكأنّ أيّة فكرة مهما بلغت جدواها أو براءتها تُرعب الفنّانين. هذا يشمل الفنّ الذي يُصنع في الغرب، حسب الزعم، ينحو إلى الحرية المطلقة في التعبير، يهتمّ بالحياة على طريقته، ويسمح تطرُّفه بالعبث الحرّ والخرق المتعمّد للتقاليد والمحرمات من دون مساءلة، ما يُشجّع على التلاعب العشوائي، بما يبدو أشبه بالشعوذة، لا يفتقر إلى الأشياء والأشكال، ويغصّ بها، وأحياناً لا أكثر من خربشات يجري تفسيرها على أنّ ما يكمن وراءها طلاقة الإحساس بالحياة، وإعادة تشكيلها حسبما يشاء المتلقّي، بالمشاركة في تأويلها.
نظرةٌ تحطّ من شأن العقل وتُسلّم بهزيمة المعرفة إزاء خصوصية الفنّ
لو أنّنا سايرنا أفكارنا وحدها حوله، فكأنّنا نُخضعه للفهم، ما يُفقده دلالاته، وفي حال اقتصرنا على تلك الحرّية التي يدّعيها، فهي ليست مطلقة، فهو يفكّر ويتأمّل ويبتكر بطرائقه الخاصّة، يحاول الانفصال عن الحياة اليومية وما ألفناه، أو الغرق فيها إلى حدود التفاهة. ففي هذا النطاق، لا يتجنّب الاستخفافَ ولا العبث، ولا تخلو اجتهادات الفنّانين المتنوّعة في النظر إلى العالم من حولهم من انتهاكات همجية للأخلاق، وإساءة للمعتقدات. ما يحيله رغماً عنه إلى فنّ مفهوم، وإن زعم أنّها تمنحه عبير الحرية في أعمال تحتاج إلى هذا الانطلاق اللامحدود نحو عوالم مجهولة في صميم الحياة وفي داخلنا، بالمقارنة مع الفنّ المبتذل رهين الإنتاج الجماهيري. في الواقع، لن يكون جذّاباً أو منفّراً إلّا بإدراكه.
هذه الاجتهادات ونقيضها تُعزّزها مناقشات أكاديمية متخصّصة، تتّسم بتفسيرات متشعّبة، تميل إلى التفلسف، تدافع عن لوحات تُمتدح بتميزّها بفرادة غير مسبوقة، تزدري النسخ الميكانيكي. اجتهادات لا ينقصها التملّق، مثلما تستحقّ الإدانة والرفض والسخرية، رغم هذا، أو بسببها، تحظى باهتمام بعض جامعي اللوحات والتجّار والهواة، والمشرفين على صالات المعارض الفنّية.
أمّا السؤال، فما زال هو ذاته: إذا كان الفنّ الحديث قابلاً للانفتاح، فلماذا الإصرار على إغلاقه؟ إنّ تكرار الكلام عن عدم قابليته للتفسير لا يشكّل دفاعاً معتبراً ولا جادّاً عنه، ما دام العقل يصنعه، فالعقل يفهمه، وما دامت المشاعر تصوغه، فالمشاعر تتلقّفه. ولا يعدو منع فهمه أكثر من دعاية إعلامية فجّة لتسويق فنّ يدعو للاستغراب، مختلف ومثير، مصيدة سهلة للنخبة الجاهلة من أصحاب الملايين، وغسيل أموال الفساد للسياسيّين والجريمة المنظّمة. إن كان حقيقياً، فليس عسيراً فهمه، إنّه خروجٌ عن النمط، أمّا لماذا، فهذا ما يعنيه الفنّ. ولئلّا نستغرب، مجرّد أنّه يُعبّر عن نمط آخر، فيخضع للتصنيف ويأخذ موقعه في تاريخ الفنّ، أو مجرّد شيء ما عابر.
-
المصدر :
- العربي الجديد