ليس في الغرب فقط، بل في العالم أجمع، نشهد تراجعاً متفاوتاً في المعتقدات الدينية. وفي حال طغى التديّن على شعبٍ ما، فإنه يُصَنَّف في قائمة “شعوبٍ متديّنة”، كما يُقال عن الشعب المصري والسوري، كما لا تُستثنى أغلب الشعوب العربية. طبعاً، ليس هناك تصنيف يصف شعباً ما بأنه شعب ملحد أو غير متديّن، حتى لو اشتُبه بشعب ينكر الدين، فليس مفروغاً منه، إذ الكنائس والمساجد متوافرة، ودور العبادة للأديان والمعتقدات الأُخرى.
يفسّر حديثو نعمةِ الانتسابِ إلى العلمانية، وغُلاة العلمانيين، ما يعنيه “شعب متديّن” بأنه من الشعوب التي تؤمن بالخرافات وتصدّر الإرهاب إلى العالم، وتنصرف إلى الماضي، وتنسى الحاضر. لذلك يُستحسن وضع هذه الشعوب تحت الرقابة، فالخطر الكامن في داخلها ناجم عن دين تُعتبر تنويعاته مولِّدة للشقاق الداخلي والحروب الأهلية، وقنابل موقوتة تُزرع في العالم، تتوالى انفجاراتها من وقت لآخر على وقع حرّية التعبير التي تظهر في الغرب بالرسوم المسيئة إلى النبي، أو الإساءة لزوجات رسول الله، أو حرق القرآن.
هذه الطرائق العنصرية في التعبير عن الرأي، تُعتبر متحضِّرة، ولو أنها أشعلت مظاهرات وحصدت قتلى وجرحي بالعشرات وربما بالمئات، فالحرّية محفوظة لمشعلي الحرائق والفتن، والمهووسين بالشهرة، والحمقى وأنصاف المجانين. المطلوبُ إقناع الغاضبين من هذا التعدّي عليهم، والمجروحين من استفزاز مشاعرهم، بعدم تكسير المحلّات والسيّارات ولا إطلاق التهديدات. إنّ عدم الانجرار إلى ساحات الكراهية أمرٌ محقّ، فالمظاهرات تبدأ احتجاجية، وسرعان ما تصبح غوغائية، السلطات المحلية تفقد السيطرة عليها، ومن دون قدرة على إقناعهم بأنها مجرّد حرّية رأي، ما دام الذين أطلقوها راعوا شروط التعبير عنها؛ بينما المتظاهرون المسالمون وغير المسالمين متَّهَمون ومدانون لأنهم من الشعوب المتديّنة بالولادة، لم يختاروا أديانهم التي يدافعون عنها، فمِن سوء حظ هؤلاء البشر أنهم كانوا في أزمنة مختلفة، مسيحيين أو يهوداً أو مسلمين، ففي كل عصر هناك دينٌ متّهم.
ليست العلمانية، بل العلمانوية هي الخطر
إذا اعتُبر أن ردة الفعل الغوغائية على مشعلي الحرائق، ليست طريقة التعبير السليمة في الرد على الرأي، فهل تُعتبر طرائق التعبير عن حرّية مجانين الغرب، عشّاق تأجيج العداوات، كعلامة على العقلانية؟ الخلاف محدَّد، كما يحاولون تصويره، بأنه بين شعوب متأخّرة وشعوب متقدّمة. لا سيما أن المتأخرة تحت النموّ، أي لم تنضج بعد، أي لا تعرف كيف تُعادي، أما التي تجاوزت النموّ إلى الرشد فتعرف كيف تُعبّر.
هذا التقييم كان لصالح الدكتاتوريات في العالم، فكلّما ثارت شعوبها، جرى اتّهامها بالإرهاب، أي بالتديّن. فتهبّ السلطات وتشنّ حملة على المعارضين ولو كانوا ملحدين، وفي الوقت نفسه يُشجَّع على التدين، احتياطاً، لتحضير بيئة ملائمة لانتشاره، تمهيداً للتضحية بهم في المستقبل على أنهم ارهابيون، وهي عملية صالحة لمخاطبة الغرب، خاصّة أحزاب ما فضلَ من اليسار، فينحازون إلى الدكتاتوريات المقاومة للإمبريالية الأميركية…
يتجلّى الدين في بلداننا في مظاهر معتبرة؛ الصلاة والصيام والحج، أضاف إليها بعضُ الدعاة الحجابَ والبرقع. عموماً، بدأت بالتراجع تارةً والتفاقم تارةً أخرى كفعل تحدٍّ، فالشعوب العربية لا تني تحاول الالتحاق بالشعوب المسالمة، على حدّ تعبير الغرب الذي لا يقبل بأقلّ من إلغاء مظاهره، فلا حجاب أو برقع، ولا بوركيني ولا مآذن ولا أذان، ما سيؤدّي إلى: لا مساجد ولا كتاب مقدّس. ما يطمئن العلمانية الغربية على حسن سلوك المتديّنين، والإلحاح على الحكومات العربية بالالتزام بالتنوير، مع التفنّن بنبذ الدين، فدواعي السلامة تحبّذ العداوة بين المسلمين والإسلام. بينما يحقّ لشعوب الغرب التمتّع بالإيمان، لأن إيمانهم غير مشبوه بالإرهاب، وفي الوقت نفسه السخرية من المعتقدات الدينية بداعي حرّية الرأي. مع التعهّد بتصدير وسائل الترفيه البذيئة، والتمتّع بها، ليس بلا مقابل.
تُستثمر حرية التعبير وقوداً للبشر في الغرب والشرق
كي يكون العالم مكاناً معقولا للعيش، لا بأس في عدم إطلاق الاتّهامات بلا دليل، وبلا محاكم مختصّة، وأن يكون التعايش بين الثقافات مصوناً ومضموناً، ومن دون حملات رقابة وتحقيق وسجون، لا إجبار ولا منع. أليست هذه هي العلمانية؟ علمانية تسلّم بالحقّ في التديّن وبالحقّ في الكفر والإلحاد. فالشكوى ليست العلمانية، بل العلمانوية التي لا تسمح لغيرها بالوجود، ولا تحفظ للبشر حقوقهم أو تحرص عليها، طالما أنها تهدرها.
إن عالماً ليست لديه تصوّرات روحية وأخلاق، لا يعني سوى إفقار تطلُّعات البشر، تلك التي يستهدي بها الناس مهما كانت أديانهم ومللهم ومذاهبهم. العالم لن يضيق بهم، بل يتّسع لهم، طالما الجميع يريدون العيش بأمان.
ليست العلمانية، بل العلمانوية هي الخطر. ليس الإسلام، بل الاسلاموية هي الخطر. المؤسف أن الغرب والشرق، رغم ما يوصفان به من ذكاء وحنكة، لا يعرفان كيف يؤمنان، ولا كيف يلحدان: كلاهما يستثمر حرّية التعبير وقوداً للبشر.
-
المصدر :
- العربي الجديد