ترددتْ من زمن لآخر على مدار التاريخ الإنساني تنبؤات عن نهاية العالم والجنس البشري، أحياناً يسهم فيها العلم بمعارفه المتشائمة. أما المتداول منها، فأشبه بتوقعات تدل عليها إشارات فلكية أو تأويلات دينية، يدعمها توقيت جزافي يوحي بالدقة، بتحديد السنة والشهر واليوم والساعة التي ستتفجر فيها الأرض، أو تختفي من الوجود، أو يبتلعها ثقب أسود. وعادة ما يحلّ الزمن المحدد ويخلف التنبؤ وعده، مع أن عصرنا النووي هو الأكثر كفاءة وتأهيلاً للقضاء على البشرية عشرات المرات.
كان من تداعيات فكرة نهاية العالم، تلك التي لم تحلّ، ابتكار نهايات أخرى، لن تتأخر، ان لم تكن حدثت، ولم ندر بها، وتشمل كل شيء، طالما يُعتقد أن الأشياء كانت لها بداية، فلا بد أن تكون لها نهاية، خاضعة لتقدير محسوب، أو غير محسوب. فانتشرت تنظيرات عن نهاية التاريخ، والأدب، والعقل، والحب، والجنس، والمرض، والجنون… فالنهايات لا تستثني شيئاً ولا أحداً.
ما تغاضى عنه أصحاب هذه التنظيرات أنها جميعها متعلقة بالإنسان، تنتهي بانتهائه، فالحب طبيعة بشرية، والجنس استمرارية، والأدب مادة للتعبير… إذ هي الوجه الآخر للإنسانية، ومن فرط التصاقها بها، أصبحت جزءاً من نسيجها.
” ساعد على رواج فكرة النهايات، التباسها بالموت، أكثر الأشياء حقيقية”
ساعد على رواج فكرة النهايات، التباسها بالموت، أكثر الأشياء حقيقية وقابلية للتعميم المطلق، لا نجاة منه، والطب مهما تقدم، يطيل من حياة الإنسان، وليس إلى ما لانهاية.
بالتناظر بين النهاية والموت، اعتمد التبادل بينهما، بافتراض أن النهاية تقارَن بالموت وبالعكس. ففي موت السياسة نهاية لها، وفي نهاية الأيديولوجيات موت لها، لكن لا السياسة ماتت ولا الأيديولوجيات انتهت، أخذتها الأنظمة والمثقفون على عاتقهما، فاستمرت حية تسعى.
فالأيديولوجيات لا تفنى، وكلّما تحجرت منظومة فكرية، وانغلقت على نفسها، تتحول الى أداة للقمع، فتنشأ الحاجة الى التخلّص منها كعامل يكبح البشر عن الفعل والتفكير، فكان العمل على تجديدها، ومن أجدر بهذا الفعل الإحيائي غير المثقفين؟
استُغلت “النهايات” لتمويت الحياة والفكر والفن والثورة والعدالة والحقيقة… فكان موت الشعر والشاعر، والرواية والروائي، والكتب والمؤلفين. وبات نسف الحقائق يعادل اليقين، فأصبح من السهل نكران الراسخ منها، وغدت الحرية والعدالة مشكوكاً فيهما.
وذهب اليقين لا الظن، بأن الثورة تخضع لدورة النهايات، فبشروا بنهاية الربيع العربي، على أنه فصل لن يتكرر، على خلاف المسيرة الحتمية للطبيعة، ما يدحضها، بعدما أتى عليها إرهاب الدولة والإرهاب الأصولي، وتنبأوا بعدم انبعاثها ثانية، فزمن الثورات ولّى إلى غير ما عودة.
دعاة الموت يخطئون عن عمد، فالثورة غير مرتبطة بزمن، ولا مختصة بفصل، وليست موقوتة، إنها مرتبطة بالبشر، والافتقار إلى الحرية والعدالة والكرامة، ليس رهينة القمع والظلم، ولا أوامر عليا، ولا أيديولوجيات وتنظيرات تعمل على إلغاء شعوب غاضبة. إنها قضية النضال ضد البؤس، والرغبة في الحياة، والحق في التعبير والتغيير.
-
المصدر :
- العربي الجديد