لم يغادر حافظ الأسد العالم إلا بعدما رسم مستقبل سورية لسنوات عدة قادمة، وما جرى فيما بعد لم يعاكسه. كان قد أنجز قبل وفاته التي لم تكن مفاجئة عملية انتقال السلطة إلى ابنه، دون أن يترك شيئاً للمصادفة، وجرى إعداده لخلافته على عدة مستويات، سياسية داخلية، وسياسية خارجية، وعائلية، وعسكرية، وشخصية. وما تبع ذلك من إجراءات رسمية علنية، كانت مجرد شكليات، تمت بلا عائق في مجلس الشعب بعد تعديل مادة في الدستور لتتلاءم مع سن الابن. وكان واضحاً أن الأمور جرت تحت سيطرة الجيش. لكن حتى هذا لم يكن سوى إجراء ظاهري. كان تنفيذ القرار موكولاً ومقتصراً على الحلقة الضيّقة المكوّنة من الأقارب وبعض رؤساء الأجهزة الأمنية فقط، وأي اعتراض جدي كان سيسحق فوراً.
هذا الإنجاز كرّس التوريث السوري أمام زعماء عرب في الدول الجمهورية، أنموذجاً جاهزاً، امتلك حضوراً قوياً شكّل سابقة خارقة، قابلة للتكرار والنفاذ، بإجراء تمثيليات مشابهة تعتمد السير على النهج العنيد لحافظ الأسد، ما أوقعهم في عقابيل التوريث، فذهبوا ضحاياه، وسجلوا نهايات بشعة ومأساوية، كانت جديرة بدكتاتوريات جشعة بلغ بها الحمق أنها استغفلت شعوبها، وغفلت عن العقاب.
ترك حافظ الأسد دليل عمل لا يتيح لمن سيخلفه الخروج عنه. حاول الإبن ألّا يتقيد به حرفياً، لكن ما تركه الأب وراءه كان أكثر من دليل عمل. كان التزاماً بتحالفه مع إيران وحزب الله، والتلويح بمفاوضات مع إسرائيل لا تفضي إلى تقدّم، والبقاء في لبنان إلى أجل غير مسمى. كانت أوراقه التي تمكّن من اللعب بها بمهارة مع الخارج، قد ساعدته عليها صلاته المرنة مع البلدان العربية، وعلاقاته مع أمريكا التي مهما أصابها من ركود أو خصام، لا تصل إلى القطيعة بفضل قنوات سرية وفّرتها دعاوى الحرب على الارهاب. كما ورثة الحلقة الضيقة الصلبة، يبثونه آراء ونصائح تراكمت عن معرفة وخبرة طويلتين، يستمع إليها سواء أخذ بها أو لم يأخذ.
غير أن أفضل ما في التركة كان الأجهزة الأمنية، مع ان الرئيس الابن فكر بإعادة هيكلتها من فرط ما سمع من انتقادات حولها. ولم يكن تردّده حيالها إلا لأنه لم يكن يجهل أنها سبب دوام حكم أبيه، ولن يجعلها سبب زوال حكمه. كانوا يديرون البلد والدولة والحزب. هذا اليقين لم يأت من فراغ، ولا يكفي لتفسير آلية الحكم الراسخة للرئيس المؤسس حافظ الأسد، وإن حاول البعض القول إن حافظ الأسد يدير الدولة من قبره. لكن الأسلم تعبيراً أنه كان قد أعدّ نمطاً لدولة تسير من تلقائها من خلال عمل أجهزة أمنية حريصة على مصلحة النظام أكثر من النظام نفسه، تربطها علاقة قوية بالعائلة والأقارب، وأعوان موالين وأقوياء، باتوا جزءاً منها. كان تطوير الأجهزة وتعدّدها قد خوّلها لتكون الحارس الأمين على السلطة، وهو أمر لا يقل عن معجزة، لاسيما وأنها لا تعمل بنزاهة ولا بإخلاص، وأيضاً بلا مسؤولية أو محاسبة، تجمع بين أطرافها منافع السلطة والثروة، وهي بدفاعها عن الرئاسة والعائلة إنما تدافع عن نفسها. كان ولاؤها مطلقاً، ودفع الوطن ثمنه باهظاً باستباحتها البلاد بنهب منظم، ليصبح الفساد آلية لتسيير الدولة، وباتت العمولات والسرقات من المال العام والخاص الطريقة المثلى المتعارف عليها لإثراء فاحش لا مشروع، لكنه مقبول، لا تقف في وجهه العوائق ولا القانون.
صحيح أن حافظ الأسد أورث ابنه أجهزة أمنية قوية، لكن إلى جوارها دولة متكلسة وإدارات عاجزة ومؤسسات منخورة ورجال فاسدين ولاؤهم الحقيقي للمال، دولة بأمس الحاجة إلى إصلاحات جريئة، جذرية وشاملة. وهذا ما لم يكن قادراً عليه الرئيس الأب ولا الرئيس الابن، ولا جيش من الأجهزة الأمنية.
-
المصدر :
- المدن