يهبُّ صخَب عالمنا من نشرات الأخبار والقنوات الفضائية والصحافة والأفلام والمسلسلات التلفزيونية؛ استقالات، وغزو، وفضائح مالية، وجرائم، وحروب، وتحرّش… وأيضاً الجميع يتّهم الجميع، في هذا الصخَب، يبرز طاقم من المتكلّمين احترفوا المحاكمات يمارسون الإدانة كعمَلٍ جليلٍ، يُدعَى في هذه الأيام: التنوير. ومن المُمكِن أن نُطلِق عليهم: المهووسون بإقامة المحاكم. ما المشكلة في المحاكم، طالما هناك قضايا ومتّهمون؟ المشكلة أنّهم أنفسهم القُضاة.

من جانب آخر، إذا استبعدناهم مؤقّتاً، يمكن اعتبار المحاكمات على أنها نقاشٌ حول موضوعٍ ما، ما يُشكِّل مناخاً صحّياً، أي أن يكون لنا الحقّ في مناقشة ما نعتقد أنّه… وما أكثر ما يمكن ادّعاؤه، فما يقع على البشر فوق طاقتهم، ولا قدرة للمحاكم على استيعابِ هذا الكمّ الهائل من المظلومين والظالمين، لو أُخذت هذه الادّعاءات على محمل الجدّ، فالإثبات بالأسانيد والوثائق. كما أنّ التقاضي مُكلِف، وكأنما حلَّ محلّهم أفرادٌ تولَّوا هذه المشاق على رؤوس الأشهاد، المطلوب أن تكون علنية.

أخذتها على عاتقها القنوات الفضائية وصفحات التواصل الاجتماعي المفتوحة على مصراعيها، ما أهّلها من دون تأهيل، لاختطاف قضايا تتّسع للخلافات والخصومات والعداوات والادّعاءات الطائشة… من دون أسانيد ووثائق، مع إيراد أسوأ الاتّهامات، تعقد وقائعها على الهواء.

من حُسن الحظّ، أنّ كل هذا يتبخّر مع الأثير، أو في الفضاء الافتراضي، مع هذا يبقى هناك ما هو عالق في الأذهان، من هذه الإجراءات المدبّرة، وما تصدره من أحكام، يتخلّف عنها نوع من الشكّ غير الحَميد.

ما يشعرنا بالخطر رغم تهافت هذه الاستعراضات، أنها باتت أشبه بجائحة، وتحوّلها مع الوقت إلى محاكم كانت وصمةً في التاريخ الإنساني، ما عُرف بـ”محاكم التفتيش” السيّئة الصيت والسُّمعة. طالما محاكم عصرنا المُشتبه بها، تطاول كلّ شيء، لا يمتنع عليها تاريخ ولا دين، أو أدب وفن. ولا ينجو منها مسرح ولا رواية، ولا تعفّ عن الشعر والفنّ، هذه السلطة باتت في حالة انعقاد دائم، فالقضايا كثيرة.

حادثة اختفاء موسيقى فاغنر ليست سهواً بل استبعاد قصدي

لا بأس بالاستئناس بالغرب، من باب أنه الأصل في محاكم التفتيش، تُستعاد في ما فرضه من رقابة ومنع بين فترة وأخرى، تجلّى بوجهه القبيح في لجنة مكارثي في استجوابات علنيّة طاولتِ المثقفين الأميركان، وأقصتهم عن أعمالهم تحتَ زعم حماية الديمقراطية؛ لم تنته، ما زال أشباهها يطلّ بين فترة وأخرى. مؤخّراً طاولتِ الموسيقى الكلاسيكية، مع أنّها بريئة من السياسة، رُغم تسامحها مع ما يُمكن وصفه من قِبل البعض بالغناء الهابط والمُنحلّ والمُنحطّ، ومع هذا بات من طبائع الفنّ الغنائي.

المهمّ أنّ هناك توافُقاً على استثناء الموسيقى الكلاسيكية من ضروب الرقابة، كانت الناجي الوحيد من جبروت المنع، لكنّها أصابتها، ولم تسلم منه، حوكمت تحت زعم أنّها اعتدت على الإنسانية، ففي حادثة معروفة، في ملف يحتوي على “مائة مقطوعة من روائع الموسيقى الكلاسيكية” لاحظ بعض عشّاقها اختفاء موسيقى ريتشارد فاغنر. هل سقط سهواً؟ لا، لقد استُبعد عن قصد من لائحة عمالقة الموسيقى الكلاسيكية. لماذا؟ ريتشارد فاغنر متّهم بالنازية.

في الحقيقة، لم يُتّهم عن عبث، المعروف عنه كراهيّته لليهود، ومعاداته للسامية، كما تعمّد ورثتُه تحويلَ مهرجان الموسيقى الشهير “بايرويت”، الذي أسّسه قبل وفاته، إلى مجمع للأفكار العنصرية، أُبعد الفنّانون اليهود عنه، إضافة إلى أنّ الزعيم النازي أدولف هتلر كان مُغرماً بموسيقاه.

بناءً على هذا الاتّهام مُنعت موسيقاه لدى بعض الأوساط الغربيّة، ونُظر إليها بالريبة، نادراً ما تُعزف. وحُظرت في “إسرائيل” كأمر عاديّ بسبب نازيّته، مع أنّ النازية ظهرت بعد نحو أربعة عقود من وفاته عام 1883، وهكذا اتُّهم بمفعول رجعي؟ دليل الاتّهام مسؤوليّته عما أقدم عليه ورثتُه بعد وفاته، واستماع هتلر لموسيقاه. أحالت مُحاكمته بعد عقود طويلة إلى مُذنبٍ باعتناق النازية، مع أنّه لم يختلق كراهية اليهود، كانت مُنتشرة في ذلك الوقت، بالتالي تجبُ محاكمة عصره، فهو لم يَصنع مزاج ذلك العصر، ولا ما خيّم عليه من أفكار خاطئة. كان واحداً من المتورّطين بها، مع ذلك إذا كان الاتّهام سياسيّاً فهو يستحقّ الإدانة بمنطق عصرنا، لكنّه كان بمنطق عصره بريئاً، إذاً وبالتحديد هناك عصرٌ يحاكم عصراً.

إذا كان فاغنر قد أخطأ، فلا يعني أن يرتكب البشر خطأ باستبعاد موسيقى عظيمة من التداول، لن يربح سوى هتلر وأمثاله، ستصبح موسيقاه من العَتاد الفنّي للعنصرية. على كلّ حال، محاولات إقصائه المتكرّرة، لم تنجح، شفعت له عبقريته، ونجَت موسيقاه.

هذه المحاكمة مجرّد مثال، خاصة أن أمثالها يتجدّد من وقت لآخر، وتوزّع الاتهامات بمفعول رجعي، لا سيّما في بلادنا، فمحاكمُ التفتيش مقامة في القنوات التلفزيونية والصحافة، وعلى ألسنة طالبي الشهرة، والمرضى بحبّ الظهور… ابتغاءَ رفع أرقام المشاهدة، هذا هو أحد أمراض عصرنا التي تفتك بالدين والتاريخ والأخلاق. السؤال، إذا كانوا يحاكمون عصوراً سلفت وشخصيات مؤثّرة كانت لها أدوارٌ بارزة، ووقائع تاريخية، أي أنّ هذا العصر يحاكم العصور السابقة، لن نجادل في المُحاكمة لكنّ القضاة، لا يمثّلون عصرنا بقدر ما يمثّلون رجال أعمال، يتاجرون بكلّ شيء، ودكتاتوريات تنحو هي أيضاً إلى رفع رقم المشاهدة.