أخذت شبكةُ “نتفليكس” على عاتقها مهمّة إضافية. لم تعد تُعنى بجمهورها في الغرب فقط، بدأت تلتفت إلى الشرق العربي الرازح تحت مصائبه، فمهمة تنويره مهمّة شاقّة فعلاً، ونحن، حسب الشائع، نقتل الفتيات العاشقات، ومهووسون بالانتحار، وأسرى التديُّن والحجاب والبرقع وقطع الرؤوس.

ما سيحصل، هو أنّ “نتفليكس” ستُحرّرنا من المفاهيم الخاطئة للحياة، وأيضاً، وهو المهمّ، من فوبيا الجنس بأنواعه؛ العادي والبسيط والمعقَّد، وعلى رأسها المثلي، القادم على عجل، مروراً بتحرير النساء من الرجال، إلى حدّ أنّه بوسع المرأة الاستغناء عن الرجل، والالتفات إلى بنات جنسها، وسوف تعمل الشبكةُ نفسها على تخليص العرب من هاجس البكارة، وحمل المراهقات، وتعدُّد الشريك الجنسي، والخيانات بأنواعها؛ الزوجية، وخيانة الأصدقاء، بعدما باتت من الأمور العادية في المجتمعات المتقدّمة. فإذا كان في أميركا، ففي الغرب عموماً، ولا بأس أن تشمل جميع المجتمعات، فالإنسان هو الإنسان في كلّ مكان، إن كان في لاس فيغاس، أو ضواحي لندن، أو عشوائيات القاهرة.

مِن وجهة نظر محايدة، لا يمكن لوم “نتفليكس” والسينما عموماً. ربما ليس الأمر دخول أسواق جديدة، ولا جني مكاسب مادية فقط، وإنما التبشير بالقيم الجديدة وتعميمها على العالم أجمع، وهو الطريق الذي انتهجته هوليوود، في دفاعها عن الكثير من القضايا الإنسانية، ومعها القضايا سالفة الذكر، هذا هو الفن.

يحصل ترويج هذه القيم لرفع السوية الإنسانية وتأهيل البشر لقيَم تجمعهم ولا تفرّق بينهم. ورغم أنّها تكتسي طابعاً ترفيهياً مثيراً، فإنّها تتّسع للمآسي بأنواعها، بصرف النظر عن البلدان أو ظروفها، أو الأديان حتى لو كانت مطاردة، وأتباعُها مشكوك بهم، ربما كانوا من الارهابيّين. وإذا كانت ستشكّل لشعوبنا صدمة بفعل تخلُّفها، فلا بأس، التغيير لا يتمّ إلّا بالصدمة، إنها ثورة يدعو اليها الفن، فإذا كان الفن للفن، فالجنس للجنس، لماذا؟ لأنّ الثورة تبدأ بالجنس، لا بالحجارة ولا بالهتافات، إنّها سلمية، أمّا لو حملت السلاح فالدبّابات والمدافع كفيلة بها. ما يعيدنا إلى الثورات التي شهدها العالم العربي، هذه مرفوضة، لقد حملت السلاح، إن لم تكن إرهابية، لكنّها سايرت الإرهابيّين الانتحاريّين.

لا تتدخل في شؤون الدول، لكنّها تتدخّل في حياة البشر

لذلك لم تتطوّع “نتفليكس” لتصدير أفلام عن هذا الربيع الذي حصدت جحيمه ملايين القتلى، وربما لم تعلم به، وإن كانت تعلم بالنزوات العجيبة والغريبة للرجال والنساء، وهي طبيعية جدّاً، أكثر من الطبيعي. أمّا لماذا تعلم هنا ولا تعلم هناك؟ فالسبب أنّها لا تتدخل بشؤون الدول، لكنّها تتدخّل بعقائد البشر وتقاليدهم وحياتهم.

في الواقع، لا علاقة لنا بـ”نتفليكس”، وإذا رغبَت أن تُساعدنا، فلا أحد يمنعها. إنّها تحاول، ولها الحق، فالفضاء مفتوح، لكن ماذا عنّا؟ لا أقصد مصادرتها ولا منعها، هذا زمان انتهى. ما يجب أن نعرفه، وهو رأينا، أنّهم لا يهتمّون بنا إلّا من ناحية ما سيرتدّ عليهم من المال، إذا كنّا مشروعاً رابحاً فسوف يستمرّون، وإذا كنا مشروعاً خاسراً فسوف يُديرون ظهورهم ويرحلون. نحن بالنسبة إليهم مجرّد سوق تتحمل السمسرة والعمولات والرشاوى والادعاءات والدعايات والتسويق والترويج، فالتجارة تتطلّب. لذلك، من السخافة اتهامهم بأنّ المقصود العبث بأخلاقنا، مجرّد أنها موضوعات رابحة في الغرب المتحرّر، فلماذا لا تكون رابحة في الشرق المحروم؟ أمّا عن الدين، وهو الإسلام، موضوع الساعة أو الساعات التي لم تنته بعد منذ ما يزيد على عقدين، وأصبح الشغل الشاغل لحكومات وانتخابات وبرلمانات وصحافة وكاريكاتير ومخابرات ودكتاتوريات، جميعها تستثمر فيه. فالموضوع أكثر من لافت ورابح، ما دام هناك متّهَم يواصل جرائمه الإرهابية.

سنستعيد قصّة الفيلم العالمي ذي الأصل الإيطالي، والذي أُعيد إنتاجه وإخراجه بممثّلين عرب. لن ندخل في التفاصيل، فهي لا تهمّنا. لكن لا بأس في الإشارة إلى أن “نتفليكس” ليست ضد الأخلاق ولا مدافعة عنها. إنها حسبما تروّج، تمنح المتفرّج حرية مشاهدة ما يرغب في مشاهدته، وتترك له اختيار النوع والوقت، ولا رقابة، فلا العنف ولا الجنس عليهما قيود. بدا هذا من كمية الانفلات من الرقابة، وهو أمر مستحب، لكن إلى أي مدى وكيف ولماذا؟ المفترض أن تمنح لصانع الفيلم العربي ما تمنحه للغربي، فالقضايا جدّية، لكن هل العربي مؤهَّل؟ لا، لذلك كان الفيلم العربي، نسخة طبق الأصل عن الغربي، لا فرق بينهما، مجرّد أنه يتكلّم العربية. ألم يكن من الأفضل، والأقل كلفةً بما لا يقاس، دبلجتُه؟

تراخينا في مواجهة مشكلات مجتمعاتنا جريمةٌ كاملة

في الحقيقة، يجب توجيه الاتهام أيضاً إلى من يُدعون بالمبدعين العرب، أنهم لا يستطيعون إنتاج أفلام تختصّ بإشكالاتنا. هذا الفيلم، بما أنه حسّاس ويُعنى بمجتمعاتنا، بدعوى أنّ ما يحدث في بلادنا لا يقلّ عمّا يحدث في بلادهم، بل ويزيد. إن مشاكلنا رغم تشابهها مع مشاكلهم، مختلفة من فرط تخلّفنا عن المجتمعات الأُخرى، أي أن عياراتها مرتفعة. فنحن نرتكب جرائم، ولدينا حالات اغتصاب، واضطهاد نساء، ونقتل ونخون ونسرق ونكذب أكثر منهم، ما يستدعي ألّا ننكر. لكنها ليست طبق الأصل، الأسباب يشوبها اختلافات واضحة، فعلى سبيل المثال، لماذا أنتجت مجتمعاتنا الإرهاب، ولم تنتجه مجتمعاتهم؟ لماذا الانحرافات النفسية والجنون الطارئ أكثر انتشاراً لديهم، أو طلبة المدارس مسلّحون يقتلون زملاءهم؟

في هذا الإطار يمكن القول: مادام الفيلم يُعنى بهموم الناس، ويكشف عن العوالم المتستَّر عليها، وأسبابها مختلفة أيضاً، لماذا لا يكون من صناعتنا، لماذا يكون ممثلّونا ومخرجونا وكتّاب السيناريوهات عبارة عن ببغاوات، يردّدون ما يُلقَّنون به، لماذا لا يتطرّقون إلى مشاكلنا، ما دام لدينا معتوهون ومجانين وعاهرات ومراهقون ومثليّون ومجرمون وفقراء ولصوص؟ لماذا ندعهم يحلّون محلنّا؟ هناك خصوصية لكل مجتمع، والفوارق بيننا، تصنع طرائق التعرض لإشكالاتنا وربما معالجتها، فالذي لا يهمّهم قد يهمّنا، وبالعكس. وأن يكونوا نحن، أو نكونهم، ليس سوى العجز والفشل. إنّ التراخي في مواجهة مجتمعاتنا والتواري وراء غيرنا، جريمة كاملة. ليس في التعلّم من الغرب نقيصة، لكنها جريمة عندما لا نسهم نحن بقدراتنا.

إذا كنّا نعتقد أنّ لدينا مشاكلنا وعيوبنا ومفاهيمنا الخاطئة، فنحن الأجدر بها، وهذه الأعمال ينبغي أن تعكس واقعاً ينتمي إلينا، ليكون النقاش حولها في العمق، سواء عن قيمتها الفنية أو هويتها الاجتماعية والسياسية، وليس جدلاً في تفاصيل هامشية، وتحدّياً تافهاً لرقابة لا يشكّل الانفلات منها إلا دعاية مبالغاً بها، في النهاية كما في البداية، لن تكون إلا هروباً من مواجهة الذات والمجتمع.
إن لم نُحرّر أنفسنا، فلن تُحرّرنا “نتفليكس” أو غيرُها.