كما وضع ابن سلام الجمحي الشعراء في طبقات، أظن أن الروائيين في عصرنا، وقد أصبحت الرواية ديوان العرب، كما يرى بعضهم، أيضا يمكن أن يضعهم النقاد في طبقات، وانطباعي الخاص أن الروائي السوري فواز حداد يأتي في الطبقة الأولى سوريا على الأقل، تفرغت في السنوات الأخيرة بعد التقاعد لقراءة الرواية، ولا حظت شيئا من استسهال بعض الكتاب الانصراف للرواية لحجز مقاعدهم بين الروائيين، وهو أمر مشروع طبعا، لكنني ألحظ أن الكثير مما يطلق عليه رواية هو حكاية تشبه الصورة ثنائية البعد، أي اصطناع أحداث وشخصيات مسطحة، مع ألاعيب لغوية وفائض من الوصف واختلاق مواقف ومصائر لا يبررها خط الأحداث، أذكر رواية لكاتبة عربية ” كبيرة” سأتحفظ على اسمها؛ فلا رغبة لدي في المماحكات، قرأت فيها وعلى مدى ثلاث صفحات أي حوالي (750) كلمة تصف فيها العربة والحوذي في أحد شوارع مدينة إسبانية، من الأجراس والسيور الجلدية والرسوم وقبعة الحوذي ومعطفه الفرو، ثم جربت إعادة قراءة الفصل مع طي هذه الصفحات؛ فلم يفتني شيء من الرواية! أتحدث عن الفائض اللغوي، بحيث يأتي فضفاضا على جسد الرواية، مما يدفع القارئ للسأم ، ويدفعه أحيانا للتخلي عنها.

فواز حداد روائي يمثل مدرسة مختلفة، الرواية عنده ثلاثية الأبعاد، ولا أعلم مناسبة هذا المصطلح، أعني بالبعد الثالث العمق، العمق الاجتماعي والفلسفي والسياسي، فالشخصيات تعالج من الداخل، نعرف نوازعها النفسية، عقدها، إخفاقاتها، نجاحاتها، وهكذا تتطور الأحداث منطقيا، دمشق تبدو لنا من الداخل بتفاصيلها، بشوارعها، من باب توما، باب شرقي، باب السلام، باب الفراديس، ولباس أهلها من المدربية، الشروال، التبان المطرز، الصدرية المزررة بخمسين من الخيوط المفتولة، دمشق بأزهارها ونباتات زينتها، عرائش المجنونة، الياسمين، دمشق الأمكنة من بانسيون مدام كورنيا، الشانوار، الخمارات، الفنادق، دمشق السياسية من الكتلة الوطنية، الشهبندرية، عصبة العمل القومي، دمشق الثوار الأحرار، دمشق العملاء، الفرنسيون ومرتزقتهم من المستعمرات، السنغال، مراكش، الأقليات وعبث المستعمر في ولاءاتهم، الوطنيون والانتهازيون الصغار والكبار، هذه الملحمة هي ما تشكل رواية “موزاييك… دمشق 39 ” كل ذلك في لغة عذبة عالية لا تخلو من الشاعرية غير المخلة بالسرد، البعيدة عن الاستعراض، هذه اللغة التي تستثمر كل إمكانات العربية بيانا ونحوا وأساليب، تجعلنا نرثي لأولئك الذين لا يستطيعون استثمار هذه الإمكانات، مقتصرين على الفعل والفاعل والمفعول به، في تنويعات لغوية فقيرة، تشير بوضوح ضحالة حصيلة كاتبها، يحضرني موقف قديم تعرضت له، وأنا حديث تخرج في كلية الآداب، أثناء تقدمي لاختبار الكفاءة للقبول في تدريس اللغة العربية، وأظنه بين يدي الأستاذ فريد حجا بمدينة حلب، رحمه الله، أخذ يسألني؛ وأنا أجيب حتى خامرني شعور بأنه يحاول تخطئتي، وكان ذلك من نزق الشباب، فقلت له: العربية بحر، أستاذي الجليل، فقال مبتسما، وقد أدرك تململي من كثرة الأسئلة، بني، أوافقك أن العربية بحر، لكنني أحاول أن أعرف مدى قدرتك على السباحة في هذا البحر؛ فأطرقت خجلا من تسرعي وسوء تقديري، وسأختم بهذا المقطع من الرواية يصف موقف شخصية الضابط السوري في جيش الشرق صولاني ” دار الحديث في الشانوار حول هتلر، فُهم من الجالسين أن هتلر لن يغزو بولونيا. شرب زجاجتي بيرة ، وفهم أن هتلر ينوي الحرب. شرب بطحة عرق، وأصبح هتلر مترددا…” ص 272 هكذا تتقلب الشخصية من طور إلى الذي يليه، على يد خبير، وحاذق في مهنته.

موزاييك عمل روائي متقن، بذل فيه الجهد الكبير، وتطلب العودة ربما لعشرات المراجع التاريخية لفترة الاحتلال الفرنسي، وبخاصة قبيل الاستقلال، هكذا تكون الرواية نوعا من البحث الاجتماعي والسياسي وحتى الأنثروبولوجي، قطع فيها الأديب السوري حداد شأوا قلما بلغه أحد، ولازال يعطي ضمن مشروعه الروائي؛ ليكون ملهما لنا جميعا، الرواية كما أسلفت بحث مركب، وبحيرة تصب فيها جداول معرفية شتى، لكنها تبقى فنا لغويا يتطلب الكثير من الموهبة والعرق.