إن هذا الزمن لهو من أسوأ الأزمنة. هذا ما يقال كل فترة، ما يدل إلى أن الأزمنة المتتالية كانت تتبارى في السيء والأسوأ، وإن كان لكل زمن قضاياه الطافية على السطح، وحقائقه الغارقة تحت السطح، وقد تُرحّل من جيل إلى جيل، وتعزى أخطاؤها السياسية إلى الثقافة والمثقفين، وفي هذا مغالاة، مع أنه يمكن تحميل المثقفين قدرا منها، فالثقافة لا تأخذ دورها، طالما أنها تحت الرقابة.
لا بأس في القول، إن المثقفين يعترفون بما قصروا به، أو تخلوا عنه. وهي من قبيل الأخطاء الصغيرة لا الخطايا الكبيرة حسبما يزعمون. فقبل عقود انصرفت اتهاماتهم لبعضهم بعضا تبعا للإيديولوجيات التي التحقوا بها، فترددت الاتهامات بالرجعية والبرجوازية، أطلقها مناضلون شيوعيون ويساريون بمختلف اتجاهاتهم التقدمية، بالمقابل اتهمهم خصومهم بالدكتاتورية والستالينية. أما العمالة فتبادلها الطرفان. لن نأتي على الصراعات داخل كل طرف فلن نذكر التروتسكين والتحريفييين والتنقيحيين، مثلما لن نأتي على النازيين والفاشيين والإمبرياليين، ولو أحيلت أحيانا إلى خلافات أدبية بحتة، كالصراع بين مقولتين؛ الأدب للشعب، والأدب للأدب، ولا ننسى مقولة الفن للفن.
الناجون من هذه المخاضة، فهم الذين سارعوا إلى مغادرة بلدانهم، تلاحقهم الاتهامات بالخيانة، كهؤلاء الفارين من النازية والحكم الشيوعي
لم يكن المثقف مخيراً، في اتخاذ موقف ما، إن لم يكن منتسباً إلى حزب فمتعاطف معه، وإلا بات خارج التصنيف. كان من المستحيل أن يكون مستقلاً، وإلا كان وحيداً، وفي فراغ، أي لم يكن شيئاً. فكان ينهزم مع المنهزمين وينتصر مع المنتصرين.. وإن لحين، إن لم يفقد حريته وربما حياته تحت تأثير انحيازه الحزبي. أما الناجون من هذه المخاضة، فهم الذين سارعوا إلى مغادرة بلدانهم، تلاحقهم الاتهامات بالخيانة، كهؤلاء الفارين من النازية والحكم الشيوعي، كذلك الفارين من أميركا أو المطرودين منها بناء على اتهامات لجنة مكارثي لهم بالشيوعية.
هذا نمط مما عانى منه العالم في القرن الماضي، لم يبق منه إلا رواسب، تتجلى في الأحزاب العنصرية، التي حققت المكاسب في الانتخابات تحت تأثير ضعف الأحزاب السائدة. كذلك أحزاب يسارية، لم تبذل جهداً كافياً لتتجدد وتستعيد عافيتها، وتتخلص من الإرث القمعي الذي لحق بسمعتها، مع أنه لا يد لها فيه، لكنها ما زالت أسيرة ماض، جعلها الخصم العنيد للإمبريالية، وعلى وفاق مع كل من يعاديها ولو كان ادعاء. حتى بات الاعتقاد أنها قد تفقد يساريتها إن لم تحافظ على عداوتها لأميركا، وهو أمر بات طبيعياً بحكم تاريخ من الكراهية بينهما، فالعداء لا ينتهي ما دام أن العوامل التي صنعته لم تنته. لكن ماذا عن تعاطفها مع الدكتاتوريات التي تزعم أنها ضد الأميركان؟ يدافع عنها، إن لم يؤيدها، كأنها تشاركهم النضال، بموجب اعتقاد أنهم إذا تخلوا عنها ستسقط في حضن الأميركان.
في بلداننا، شاركنا العالم انقساماته الأيديولوجية، أما إلى أي حد كانت تعبر عنا، فلا ريب أننا استعرنا إشكالاتها ومشكلاتها، وأسبغنا عليها طابعاً عربياً، فأصبح لدينا اشتراكية عربية، لم تثمر سوى المزيد من الفقر والانتهازية والمخابرات، بحسب الادعاء، أننا لم نستوردها، بل استخرجناها من تاريخنا. فلم نتابع السير على طريق النهضة، بدعوى أننا نحرق المراحل، بينما كان التنوير هو الأجدى في هذا الظلام الدامس.
لدى الثقافة مهمات كثيرة، ولن تكون ثقافة حقة إن لم تتصد للأمراض الحقيقية، لا سيما أن البلد ينخرط في المذهبية بتغلغل إيراني
نرزح اليوم تحت ثقل ما أغفلناه، والتقصير في الفهم، بدلالة فهمنا للعلمانية على أنها ضد الأديان، تحت تأثير الإلحاد الشيوعي والحداثة الغربية، واعتبار إلغاء الدين الشرط الأول لعلمانية جسورة، موروثة من ماض يساري لم يقبل بأقل من الإلحاد. بينما شعوبنا تعاني من المذاهب والطوائف، فجرى التعتيم على الطائفية المستشرية، ولم يجر الاعتراف بها، ومحاولة معالجتها إلا بعدما استغلت في الخراب، وشرخ النسيج المجتمعي، ما دمر بلادا في حرب لم تخف طائفيتها رغم محاولات إنكارها.
لدى الثقافة مهمات كثيرة، ولن تكون ثقافة حقة إن لم تتصد للأمراض الحقيقية، لا سيما أن البلد ينخرط في المذهبية بتغلغل إيراني، بات تسمية الأشياء بأسمائها ضرورة، والاعتراف بالطائفية ضرورة للعمل على الخلاص منها. وعدم التخفي على الثورة بالزلزال، بل كانت ثورة، غدر بها، ما تزال مطلوبة على كل الأصعدة. ولا التسليم بالدكتاتورية على أنها مضادة للإرهاب. وأيضاً نزع الوصاية عن الإسلام ضرورة، لئلا يُترك للمتأسلمين محترفي الفتاوى الإرهابية، أو النظام ليتخذه ذريعة لصناعة دين ينصاع لأولي الأمر.
-
المصدر :
- تلفزيون سوريا