حققت المحاولات التي بذلت للسيطرة على الطبيعة، انتصاراً للبشرية، بات الإنسان سيّدها، ولم يعد عبداً لنزواتها وأهوائها، غدا من الممكن توقّع غضبها من زلازل وأعاصير وهبوب رياح وعواصف. عموماً أخذ العلم يتنبأ بالكوارث، فيُستعد لها، ما يقلّل من أخطارها، ويجعل أضرارها بالحدود الدنيا، وإن من دون نجاح كبير.
كما عمل العلم على القضاء على الأمراض المستوطنة والأوبئة والإسهام بمعالجات لأمراض كانت تبدو مستحيلة الشفاء، ونلمس تأثيره في زيادة متوسّط عمر الإنسان بشكل تصاعدي حتى قارب الخامسة والسبعين في البلدان المتقدمة.
بيد أنه إذا كان الإنسان من قبل عبداً للطبيعة، فيخشى أن يصبح عبداً للعلم، لا يهمه أكثر من تحقيق انتصارات علمية من دون ضمان نتائجها الكارثية على الأرض، مجرد ألا يخفق في تحقيق إنجازات تحسب له.
يمكن تقدير هذه الأخطار، بالنظر إلى أنه لن يصبح عبداً للعلم فقط، بل للحكومات أيضاً. أي أن يكون العلم أسير حكومات طموحة تستغله في صراعات عالمية، لا تخفي نوايا الهيمنة على شعوب أخرى، بإنتاج قنابل ذرية ونووية، ومختلف أنواع الأسلحة من البنادق إلى الصواريخ، وتحويل طائرات الركاب إلى طائرات قاذفة ومقاتلة، ودائماً في طور تحسين قدراتها القتالية، فحثّت العلماء على تطوير أسلحة ذات قدرة عالية على التدمير، وتطوير أسلحة القتل عن بعد، مع تحقيق أكبر قدر من الإصابات المميتة، كذلك برامج للتجسس تُستخدم للسيطرة على الدول الصغرى.
يتفاءل الكثيرون عن ثقة بأن العلم لديه القدرة على تصحيح أخطائه
كل هذا يتم بدعم من برامج حكومية منخرطة في عقدة التنافس مع الدول الأخرى سعياً للتفوق عليها، ما يحلّل الفساد بشراء عملاء وضمائر واستزلام رؤساء دول تابعين لسياساتها ما يذهب بهم إلى شراء علماء، لا همّ لهم سوى تحقيق انتصار علمي مهما كان شأنه، دونما النظر إلى استخداماته الحربية، من دون الحق بتقييد استعمالاته.
كما أسهم العلم في خراب البيئة والمناخ؛ وظهور بعض أمراض غير معروفة سابقاً وأوبئة (آخرها الكورونا، يشك أنها قادمة من المخابر) وتداعي التواصل الاجتماعي الفعلي إلى الحدود الدنيا، والاكتفاء بالتواصل الافتراضي، كذلك الاستخدامات السيئة للتكنولوجيات الحديثة التي تحد من الحريات الشخصية، بوضعها مواطنيها تحت الرقابة في أصغر وأدق تفاصيل حياتهم، فتدخل إلى غرف النوم، عدا تمكّن أفراد من انتهاك خصوصية الآخرين، ومنهم شخصيات عامة؛ سياسيين وفنانين وسيدات ورجال أعمال. وقد يصبح العلم وسيلة لابتكار وسائل تعذيب نفسية لإخضاع البشر في المعتقلات.
لا ريب، عاد تقدّم العلم في القرن الواحد والعشرين بالكثير من الفوائد والمنافع على البشرية، إلّا أنّه لم يعد من الممكن في بعض الأحيان السيطرة على هذا التقدّم، ولا حتى استيعابه، بعدما اقتحم الحياة مثل أخطبوط ورّط البشر في متاهاته، وإن سهّل أمور حياتهم، لكن بقدر ما أصبح الإنسان بحاجة إليه، بقدر ما بات يدفع باهظاً ثمناً لحاجات لم تكن موجودة، وأصبحت لا غنى عنها.
فالإنسان الذي حاول في البداية السيطرة على الطبيعة، يبدو اليوم على حذر من العلم، ويتساءل عن سبل التحكّم به، فالاختراعات التي كانت واعدة يمكن أن تؤدي إلى دمار الجنس البشري كله، وإن كان ما يزال يبذل الوعود بمجيء عصر ذهبي، يحمل انتصارات علمية، وازدهاراً معيشياً، وإنجاز خطوات واسعة في مجال الصحة الإنسانية؛ رفاهية ووفرة، أعمار تزداد طولاً، عدالة تعمّ العالم، سلام يشمل الكرة الأرضية، غزو للفضاء، والعديد مما يصعب تخيّله، وحدها السينما بادرت إلى استثماره… ولا غرابة في انقلابه إلى حقيقة.
أسهم العلم في خراب البيئة والمناخ؛ وظهور أمراض جديدة وتداعي التواصل الاجتماعي
في الوقت نفسه، يتوقع المتشائمون انهياراً اقتصادياً، وتدهوراً في الصحة، وأوبئة لا يمكن السيطرة عليها، وكوارث بيئية، إن لم تسبقها كارثة نووية، وهجرات جماعية، وانخفاض هائل في السكان، وشعوب في سبيلها إلى الانقراض، وانتشار عنصريات تبشّر بحكومات شمولية، تعود بالبشر إلى الرق.
بينما يتفاءل الكثيرون عن ثقة بأن العلم لديه القدرة على تصحيح أخطائه، بالنظر إلى فتوحاته السابقة وقفزاته الهائلة، ويتجاهلون سلبياته المدمرة، أو يمنحونها اهتماماً أقل، ويركزون على مجالات التقدّم المستمر، لكن الخطوات المظفرة للعلم، لا تحمينا من النظر بقلق عميق إلى ما قد يحدثه من أضرار، تنذر بأخطار حقيقية، ليس بسبب العلم فقط، بل بقادة في عالمنا يتمتعون بالغرور والغباء، وما تدمير الحضارة، وفناء البشرية، إلا من تداعيات أفكار عقول مخبولة مهووسة بالسيطرة على عالم، قد تختفي منه جراء جشعهم جميع صور الحياة.
-
المصدر :
- العربي الجديد