كان للحضور الطاغي للسينما والتلفزيون، وما وفره الإنترنيت من وسائل للتواصل تستهلك الوقت بالتسلية والترفيه، بما تشاركه من محتوى متنوع، وأحياناً صادم، أن يستأثر بالمتابعة والاهتمام. فلم تعد الحاجة إلى الرواية شديدة، مع أنها كانت ترفد خيال الدراما السينمائية والتلفزيونية، وما زالت، لكن أقل بشكل ملموس.
الرواية مهددة، خيب تقهقر الإقبال عليها التوقعات، عوضت عنها الشاشة بسحر الصورة، وليس من سر القول إنه منذ عقود بدأت أساليب السينما وموضوعاتها تؤثر في صناعة الرواية، وجاء دور وسائل التواصل الأسرع في التأثير. بينما الرواية كقيمة تحث على التأمل، لم تعد لها الأولوية. الكتابة تراجعت، لكنها لم تختفِ، كأنها فقدت ما تتمتع به، وتبدى في الانصراف عنها، باتت السطحية مطلوبة.
لم يعد الاعتراف بالكاتب يرتبط بجودة ما يكتبه أو بأصالته الأدبية، وإنما بقدراته على الادعاء والدعاية لموهبته، وإن كانت هذه الملاحظة على الهامش، لكن لا بد من التطرق إليها، من ناحية أنه بات عليه أن يعتمد بشكل كبير على شبكة العلاقات الشخصية. فالصداقات مع النقاد والصحافيين والعاملين في الشأن الثقافي أصبحت المفتاح الذي يفتح الأبواب أمامه، ويمنحه مكانة مبالغاً بها أو لا يستحقها.
إن تقزيم العمل الروائي واعتباره مشروع صور متحركة، على أمل الوصول السريع إلى الشاشة، يغريه بالتنازل عن المجازفات السردية والعمق الفكري ومغامرات اللغة، ما يجعل عمله أقرب إلى عمل غير منجز كإبداع روائي، لا يراعي فيه إلا أن يكون صالحاً للتحويل إلى سيناريو، توطئة لإنتاج ترفيهي لا عمل جاد. إن قابلية الكاتب للانجذاب إلى هذه المؤثرات تخدعه وكأنها الطريق الذهبي إلى الشهرة.
لا يأتي الأدب الحقيقي من بهرجة الأضواء، بل يولد في العزلة
ينبغي الاعتراف بأن الرواية تصارع في ظروف غير ملائمة تعمل ضدها. في مناخ ثقافي يسعى العاملون فيه إلى إرضاء الجمهور أو السوق، فيضطرون إلى مراعاة توقعاتهم وأمزجتهم. ومع الوقت، يفقد الكاتب صوته الخاص، وتتحوّل كتابته إلى مرآة لما يريده الآخرون، لا ما يؤمن به. ما يهدر الرواية وما اكتسبته من إمكانات وأدوات حققت إنجازات كبيرة، أصبح لها تاريخ طويل وطرائق إبداع متنوعة.
لا يمكن إنقاذ الرواية إلا بإنقاذ الثقافة نفسها، وإفساح المجال للرواية كي تحتل مكانتها الحقيقية، وإلى جانبها السينما، لا نوع يحل محل الآخر ولا على حسابه. إن المظاهر الثقافية المبالغ فيها، إذا انفصلت عن جوهر الثقافة، لا تُعد تمثيلاً حقيقياً لها، بل تُساهم في تشويه صورتها بالصخب، مع أننا نعتبر الحفاوة بالثقافة من أسمى مظاهر الحضارة، لكن كل هذا لم يعد سوى مظاهر غير مرتبطة بجوهر الكتابة أو بقيمتها الحقيقية. إن دعم التنوع الثقافي والفني لا يكون بالضجيج، بل من خلال الوعي بدورها، والحرص على حريتها الذاتية، لا تقييدها بما ينبغي أن تكونه.
الواقع يقول، على الرغم من هذا الدفق الروائي في البلدان العربية، إنه ينبغي التحذير بأن الرواية لم تعد تحتل الموقع المركزي الذي كانت تشغله، ولا تستعيد قيمتها من الانسياق وراء استعارات سينمائية. لا يمكن التغلب عليها بتجاهلها، ولا بتوخي حلول شائعة من المتوافرة دائما في أسواق الدعاية، فالرواية لا تكتسب مكانتها من الادعاء، أو الشلل الأدبية، ورياء النقد. الرواية الحقيقية تُبنى على الحقيقة، تُصنع من تجارب صادقة وعمق فكري وإنساني، لا من الزيف والتصنع.
لا يأتي الأدب الحقيقي من بهرجة الأضواء، بل يولد في العزلة، حيث يواجه الكاتب نفسه ويستخرج من أعماقه تلك الرواية التي تحمل العبء الأخلاقي، وتفتح آفاق المعرفة، وتساهم في تشكيل المخيلة الإنسانية.
-
المصدر :
- العربي الجديد