يتجوّل الكاتب في عالم واسع، بلا حدود، فالخيال حسب تصميمه كإمكانية خلاقة، إن لم تجد بغيتها تخترعها، لذلك ما أسهل اختراق الجدران والحواجز، فهي مهما تكن صلبة وصلدة، لن تكون إلا شفّافة وهشة.

لكن مهما بلغت قوة الخيال وجرأته، لا يستطيع التحكّم بالعالم، إلا من خلال العالم الموازي له، وهو الأدب. عالم، ساحاته واسعة، وكبواته كثيرة، لما يمنحه من حرية للكاتب، تسقطه في الفوضى، لذلك بوسعنا الحديث عن أخطار الأدب الجانبية، الكامنة في صلبه، فالخيال يذهب بطبيعته إلى المناطق المحظورة، وينازع السلطات على البشر، لذلك لم تكن السلطات والمجتمع على وئام مع الأدب ولا الفن، إلا إذا كانا فاسدين.

كمثال أولي؛ تبدو الرواية الطريق الأمثل لإعادة تشكيل الكاتب لذاته وللعالم، أو تصحيحهما، إذ إن الواقع قلّما يكون على صواب، لذلك لا يمكن مسايرته، ولا الاستكانة إليه. الرواية أكثر كثافة من الواقع وهشاشة منه في آن، وإذا كانت أقل حقيقية من عالم يسحق من يجابهه، فهي قادرة على التلاعب به، بحيث يبدو عملها على فضحه، إعادة الرشد إليه.

“الخديعة أن العمل الروائي يبدو بسيطاً ومبسطاً، وهذا واحد من أخطائه الفاحشة”

الخديعة أن العمل الروائي يبدو بسيطاً ومبسطاً، وهذا واحد من أخطائه الفاحشة، لو كان هكذا فعلاً. يجاري الروائي تعقيد الواقع وفظاظته وجرائمه ولا يماثله، لئلا يرتكب ما عجز عنه مجرمو الواقع، وهو التزوير المتقن.

يمتلك الكاتب من الصلاحيات ما يساعده على الغوص في الحياة دون الإصابة بأذى، إلا إذا كان في إحدى دول الشموليات التعيسة، عندئذ عليه اتقاء شرها، بالتخفي وراء الرموز، وإظهار ما يبطنه، على أنه نصائح يسديها لأولي الأمر، هذا في أسوأ الأحوال… أو الصمت، وربما الانتحار. الروائيون لهم حصة في انتزاع حياتهم بأيديهم؛ فرجينيا وولف، ستيفان زفايج، هيمنغواي، كاواباتا، ميشيما…

تقع مسؤولية الانتحار على الكاتب، فهو إذ يصرف همّه إلى التأمل والكشف، يتورط في النهايات عديمة المعنى، يقوده العبث إلى تأمل العدم، مما يحفّزه على الكشف عنه. في داخل كل روائي شبح انتهازي، يسارع إلى استغلال أية فرصة تلوح له دونما إدراك لعواقبها، يظن أنه يتخفف من مآسيه الشخصية على الورق، ولا يتورع عن أن يدسّ في روايته ما يشغله من قضايا كبيرة وصغيرة، إذا لم تتسلل إليها ضد إرادته.

ترى ما الضمانة في أن ينجو الكاتب من تقاطعاتها مع مفاجآت الواقع وبمرمى نيران الهموم العامة والشخصية… والجنون، الكاتب معرض للجنون، إن لم يكن للوثة ما، والأكثر استعداداً بفعل تماهيه مع المنكوبين، للتعرّض للكوارث النفسية. فلا عجب أن يذهب ضحية ما يكتبه، فيخلط بينها وبين الواقع، وبدلاً من متابعة طريقه في الحياة، يمضي في الدروب الغامضة، على أنها الأجدى، فالحياة رغم وضوحها، لا تمنح في أفضل أحوالها أكثر من الغرور. يا لها من مكافأة مسمومة.