لا غرابة في تفاقم الجهل والفقر والمرض والجوع في العالم، طالما أن هناك تزايدأً في أعداد أصحاب المليارات، هؤلاء يأخذون من أولئك. إذن لا هدر لأموال لا يُعرف أين اختفت. يمكن القول، هذا من نتاج الإفراط في التقدّم، وهو تقدّم أسهم في إنجازه فساد طفح على السطح، وتجلّى في الظاهر والباطن والخفاء معاً، ما وحّد الدول المتقدمة والمتخلفة على حد سواء. وطرح التساؤل حول قيم التقدم المنشود، فالتعارض بيّنٌ.

آثر الغرب التقدّم في بعده المادي، وتهاون في أبعاده الأخلاقية والروحية. فالتقدّم المادي يخشى الموانع الأخلاقية والدينية. دعاوى التحلل من القيود بأنواعها، تمنح دعاية باذخة للتقدّم، بالتخلي عن الأخلاق تحت مزاعم الحرية، غير أن هذه الحريات تقتصر على من تتوفر لديه القدرة على ممارستها، ما يستلزم المال والنفوذ، لا الأخلاق والمسؤولية، فالتحلل من الجريمة تكلفته باهظة، لذا يفلت الأغنياء ويسجن الفقراء.

لم يتجاوز التقدّم في الحريات أكثر من حرية الجسد والعري، وأيضاً التقدم العلمي غير المسؤول. أما حرية الرأي والتعبير، والتحرّر من الاستبداد والطغيان، فقد بات في مؤخرة اهتمامات الغرب، طالما أنه يعني الشعوب المتخلفة، إلا إذا شكّل عنصراّ ضاغطاً من الرأي العام.

فالتسيب والانتقائية وازدواجية المعايير والكيل بمكيالين، سمح بعودة الدكتاتوريات، والفضيحة الكبرى أن من يدعمها ويشدّ من أزرها سياسات الديمقراطيات الغربية، بتجاهلها القتل وسفك الدماء، بدعوى أنها أمور داخلية، في حين ليس ثمة أوضح منها في التعبير عن إنكار الحق في الحياة.

اعتقد المفكرون أنّ التقدّم في العلم؛ الطب الفلك الفيزياء الكيمياء… سيوازيه تقدّم إنساني لا يقل عنه في حقول المعرفة الإنسانية، ليصبح نموذجا للتقدّم في الميادين الاجتماعية والإقتصادية والسياسية. يتبدى في التركيز على أن الخرافة، خرافة فحسب، لكن العقل ليس وحده هو المرشد. إذ إن العقل منفعي، لئلا يكون وسيلة لتقدّم يدر المال فقط، ولا يحقق الوقاية من الجوع على الأقل، ناهيك عن توفير مقدار ضئيل من السعادة.

القرون الأخيرة شهدت هيمنة العقلانية، ولم يأت كف تأثير الدّين والأخلاق في العلم والحياة، بالسعادة المنشودة، ولم يوفر القناعة. صحيح أن السعادة لم تكن هانئة كما قدر لها، لكن السعي إليها وفّر تسهيلات في العيش، لم تتحقق الجنة في الحياة الدنيا، وإن أمكن للإنسان أن يقبس شيئاً من جنان الخلد، لكن نيران جحيم الحروب كانت أكبر.

فنّد باسكال الحكمة القديمة الأرسطية القائلة بأن “الطبيعة تخشى الفراغ”، لكن التقدّم خلّف فراغاً في القيم، ما أثبت الخشية من تحقّق الحكمة التي أنكرها باسكال، وأحال التقدّم الظافر إلى أداة دمار للإنسانية. فالأسلحة كانت في مقدّمة متواليات الكشوف البناءة لقتل أسهل وأجدى جماعياً، ما يعزز إرادات السيطرة والهيمنة والرغبة العارمة في إبادة كل ما يقف عثرة في وجه وحوش التقدّم.