بعد أن انهيت قراءة رواية فواز حداد الأخيرة “يوم الحساب”، شعرت أنني استعدت أفضل مافيّ: متعة القراءة الأولى الخام وتلك الخضات في المشاعر والأحاسيس التي تترك أثرا عميقا في النفس، وتنبش في الدوافع النبيلة والخبيثة، وقد تمتلك من قوة الإقناع والمقدرة على الغواية، ما يحدث تحولا في في جوهر المرء.
أستشهد هنا بمقولة ذهبية للناقد الألمعي يوسف سامي اليوسف “ربما صحّ الزعم بأن غاية الثقافة برمتها، وليس الرواية وحدها، هي تطوير الماهية الإنسانية في داخل الموجود البشري”. (مقال في الرواية ص 29 – 30) وهي في معمارها البسيط الأنيق، لكن صعب المرتقى في آن، وفي سردها المتدفق المتعرج الصاعد الهابط المتخفي في زواريب الأزقة القافز فوق الحواجز، الهارب من أعين المخابرات والشبيحة، يماثل خوف السوريين “الأبدي” منذ صارت هذه المفردة الصفة الملازمة “للنظام”.
والزمان السوري الذي تراكم خرابه في البشر والحجر والشجر، ومكانه: بضيق زنزانة، لكن أيضا باتساع حلم، حلم الحرية، والجرأة على محاولة امتلاكه.
وبقدر انغماس الرواية في الواقع السوري الأسود المسدود الأفق اليائس والمهزوم، بقدر ما تتجلى حيوية شخصياتها وفاعليتهم الإنسانية وحراكهم في قلب تلك الأهوال.
وكلما توغلنا بالقراءة، سنكتشف مجموعة من التحولات طرأت على أفكارهم وسلوكهم ومفاهيمهم عبر الصراعات التي خاضها كل أحد مع نفسه، وفيما بينهم، وكيف ربحت النزعة الإنسانية التلقائية البدهية في نهاية المطاف .
في استراتيجية الكتابة
تقع الرواية في مائة وتسع وستين صفحة مقسمة إلى ستة عشر فصلا ، كل فصل يحمل عنوانا طويلا، تليه فقرات وظيفتها كشف تفاصيل ما جاء فيه كونه عتبة للدخول في المحكيات، وتتناوب في الطول والقصر بحسب العلاقة الجدلية بين فاعلية الشخصيات في مجرى الأحداث، وتأثير الأحداث في الشخصيات، وتسير بحسب تراتبية العنوان، ها كم مثال تطبيقي : عنوان الفصل الأول يسير هكذا: ميت وشهيد ومطارد – سيدة سورية فرنسية الجنسية – مقهى النوفرة – جلسة فولوكلورية – اختفاء طالب سوري – قصة حب رومانسية في قلب الجحيم.

بعد هذا الازدحام الشكلي لعنوان الفصل والذي يحمل كل واحد منه جزء من حكاية تتناسل منها حكايات، تقوم فقرات خمس بوظيفة سرد محكياتها التي تشكل جسم الرواية: الشخصيات الرئيسة وعلاقاتها فيما بينها، مسرح الأحداث زمانه ومكانه – كونهما يلعبان دورا مفصليا في تقرير مصائر الشخصيات وسيوقعان كلمة النهاية في الفصل الأخير.
لكن قبل المضي في التعرف على بقية العناصر البنائية التي شكلت أسلوبية الكاتب في تأليف روايته، لابد أن نبدأ بهذه الافتتاحية القوية الآسرة :(أنا شخص ميت، في حماية شهيد
لن أذكر اسمي الحقيقي، الإعلان عنه سيرهن مصيري لمحاكمة لن تطول أكثر من دقيقة، أو دقيقتين في سجن صيدنايا، قبلها أبصم على ورقة، ربما كانت اعترافاتي، ستكون شهادة وفاتي، وأنتظر معصوب العينين تعليق مشنقتي في المبنى الأبيض).
لاشك بأنه تعريف فريد للراوي عن نفسه يستدرج الفضول والدهشة والترقب، ويضعنا – دون تأخير – في صلب العقدة أو “الحبكة” التي تتجسد أولا في إشكالية الإسم “الهوية” – رعب الإنسان السوري – وبالكاد نلتقط أنفاسنا ونحن نلاحق متوالية السرد في الفقرات التي تحتشد بظهور الشخصيات القريبة من الراوي، والتي يتعلق مصيره معها على نحو لايقبل الانفكاك.
في معمار الرواية “بنيتها”
أين نبحث عن بنية الرواية؟ الجواب الفوري في سرد المحكيات، وكيفية السرد وإلى أي نوع ينتمي.
لنعد مرة أخرى إلى الفصل الأول . يقول مارتينيه: (الجملة هي أصغر وحدة ممثلة للخطاب بصورة كاملة 2- رولان بارت جيرار جينيت من البنيوية إلى الشعرية ص 16) فإذا كان الأمر كذلك، وهو كذلك، فإن الجملة الافتتاحية الخبرية تختبئ طيّها مستويات من المعاني، وسلسلة من التساؤلات سيسارع الراوي إلى كشفها والإجابة عنها تباعا دونما تأخير، مما يدفعنا إلى الاستنتاج أنه لايملك ترف تبديد الوقت فأمامه مهمة تعهد بتنفيذها لصديقه في الشتات، وهكذا ندخل أرض الرواية.
حسان “وهذا اسم الراوي في الرواية”،لا يستطيع ذكر اسمه الحقيقي – وكذلك أسماء كل شخصيات الرواية فهذا سيعرضهم إلى خطر محيق – هو مطلوب لثلاثة أفرع في المخابرات باتهامات تبدأ “بإضعاف الشعور القومي مع أن تهمة الإرهاب تكفي وتزيد”، من شباب التنسيقيات خرج بالمظاهرات وقام ببعض الأعمال الإغاثية وتهريب بعضهم مع عائلاتهم خارج البلاد.
نجا بالمصادفة من الموت والاعتقال الذي حلّ بمعظم أصدقائه، وهو يعيش باسم استعاره من أحد الشهداء الذي قتل قنصا لكنه لم يسجل ميتا في سجلاتـ”هم” الرسمية، يتنقل متخفيا بهويته بأقل قدر ممكن فبقاؤه حيا يتطلب منه الحرص على بقاء الهوية نظيفة من الاتهامات الخطيرة حين مروره على أحد الحواجز.
هو ظل لشهيد / حي يعيش حتى اللحظة – زمن السرد – باسمه، وهو ظل لذاته أيضا التي لا يستطيع ذكر اسمها ، والاسم هو الهوية، والهوية حاملة للإسم أي لذات الإنسان، وحياة الشاب حسان تنوس بين هذين الخطرين في حال انكشافه: انتحال شخصية، والإعدام الفوري كما أخبرنا في الافتتاحية .
إشكالية الإسم تدفع حسان لاتخاد قرار الهجرة مع أخته وعائلتها وحبيبته ريما، لكنه يصطدم بقرار أخته تعليق هجرتها بالإفراج عن زوجها السجين لأسباب اقتصادية، وبرفض حبيبته ريما الهجرة بالمطلق لأنها مؤمنة بانتصار الثورة في برهة لاتشك بأنها قادمة، ولأن حياته تبدو متعالقة بالمصادفات، بدء بنجاته من الموت والاعتقال فهجرته أيضا متعلقة بإقناع ريما بالتخلي عن أوهامها والتحلّي “بالواقعية”، وكذلك أخته لاسيما أنها موعودة بإطلاق سراح زوجها قريبا لأن تهمته لا علاقة لها بالسياسة.
في خضم هذه الفوضى يتلقى حسان اتصالا من صديقه الذي هاجر إلى فرنسا، يطلب منه أن يلتقي بسيدة فرنسية من أصول سورية تعمل أستاذة في تاريخ الشرق الأوسط في جامعة باريس ستأتي إلى سوريا “تحمل قضية عادلة”، وعليه مساعدتها في مهمتها وزوده ببعض صفاتها وعلامة فارقة للتعرّف عليها.
سيعد حسان صديقه المهاجر بمساعدة السيدة إن استطاع، دون أن يعرف طبيعة “القضية العادلة” التي تحملها، سيلتقيها في مقهى النوفرة، تنتابه الكثير من الهواجس والشكوك حولها ويؤلف عددا من السيناريوهات التي اختلقتها مخيلته، لكنه يستبعدها بمجرد ماحكت له “القضية العادلة” التي جاءت لأجلها.
حكت “رحاب” – وهذا هو اسمها – أنها جاءت لتقصي مصير أحد طلابها السوريين الذي عاد إلى سوريا فجأة دون إخبار أحد ثم اختفى دون تسرب أي معلومة عنه، حدث هذا منذ ست سنوات.
الشاب الذي جاءت تبحث عنه اسمه “جورج أيقوني”، طالب سوري في جامعة باريس جاء إلى دمشق دون إعلام أهله بنواياه، وكان قبلها قد حذرهم من الاتصال به حرصا على سلامتهم، وهكذا فقد الاتصال بينهما لسنوات، وقبل بضعة أشهر كلفت أمه قريبا لها ذهب إلى باريس بالسؤال عنه، فعلم من أصدقاء له أنه انقطع عن الجامعة منذ ذلك الوقت، والأغلب أنه غادر إلى دمشق.
السؤال عنه قاده إلى أستاذته في الجامعة، عندما أخبر رحاب – وهذا هو اسمها – بحكاية جورج، طلبت منه عنوان أمه فاتصلت بها وأخبرتها أنها بعد نحو سنة من عودته إلى سوريا لم تسمع منه ولا عنه شيئا.
من هنا بدأت رحلة آلام الأم، صدمتها الأولى القاسية أن ابنها عاد إلى سوريا منذ أن حذرها من الاتصال به، أي منذ ست سنوات، في حين كانت تظنه في باريس، أما أستاذته التي تلقت صدمة الأم المفجوعة بولدها المختفي طيلة سنوات ست ويزيد، قررت القدوم إلى دمشق للمساعدة في معرفة مصير تلميذها بعد اتصالها بأصدقاء له وعدوها بتيسير أمورها في دمشق وسهلوا اتصالها بـ”حسان”.
الطالب جورج أيقوني المسيحي الذي قطع دراسته في فرنسا وعاد إلى سوريا للمشاركة في المظاهرات السلمية التي كانت تأتيه أخبارها من أصدقائه المشاركين فيها، ثم اختفائه، قدوم “رحاب” أستاذة جورج في مغامرة إنسانية وتعرّفها على سوريا “المخابراتية” عبر الضابط الذي نصحها أحدهم بمقابلته إذ ربما يساعدها في فك لغز اختفاء طالبها “جورج” ثم اتصالها بحسان واشتباكها معه وكل شخصية مرتبطة به في عملية البحث عنه.
دخول الكنيسة متمثلة بـ”أبونا القس” بطلب من الأم المفجوعة باختفاء وحيدها كونها راعية وحامية لحقوق المسيحيين في الدولة، ريما حبيبة حسان التي ستلعب دورا أساسيا في الكشف عن مصير جورج أيقوني عبر شبكة معارفها من الشباب، تفاصيل علاقة حسان بحبيبته ريما سيكون الخيط الذي يشبك السرد حتى النهاية. تنتهي الرواية بمعرفة مصير “جورج أيقوني” .
في إحدى المظاهرات السلمية، يصاب جورج برصاص الجيش، يحاول صديقه أحمد إنقاذه فيصاب هو الآخر، ثم برشقة رصاص يستشهد الاثنان جانب بعضهما، بعد انتهاء المعركة يعود الثوار لانتشال جثتيهما وسيدفنان في مقبرة “المسلمين”، من يتوصل إلى هذه الحقائق ويرويها للأم ولحسان ورحاب في بيت الأم “سومر العلوي” مصطحبا معه فيديو يوثق أقواله، الخبر الذي أراح قلب أم جورج وأختيه أن الشباب توصلوا إلى معرفة مكان المقبرة، حيث صار بوسعها نقل رفاته إلى مقبرتهم “المسيحية”، حين تصارح “أبونا” الذي انخرط طويلا في محاولة معرفة مصير جورج عن طريق مسؤولين في النظام ولم .
يقول لها بعد نقاش لاهوتي مؤثر، هذه الجملة المضيئة : (لاتقلقي رقاده)، ولأن استحالة فصل رفاتا أحمد عن جورج اللتان امتزجتا ببعضهما، كان لابد من استضافة إحدى الأمهات لرفات ابن الثانية، أم أحمد بادرت بأن تستضيف أم جورج رفات ابنها وأوصتها به خيرا، وفي اللحظة الأخيرة وهم يهمون بنقل الرفات إلى التابوت استوقفت أم جورج الرجل وقالت له : (لن أقلق رقاده)، وهكذا “لم يعد جورج ضيفا، بات أمانة لدى المسلمين إلى يوم الدين.
في بنائية السرد وتقصيه لأقاصي المعنى
أثناء رحلة البحث عن “جورج أيقوني” تتسارع وتيرة السرد، وتتناسل حكاية من حكاية، في خطوط متشابكة تزداد أعدادها وتشابكاتها كلما دخلت شخصية جديدة تساهم في الأحداث بطريقة جذرية أوثانوية، تتفرع من بؤرة الحدث “عقدة الرواية”، وتعود لتصب فيها، مثل نافورة مياه لاتكف عن الانصباب والعودة.
اعتمد الكاتب الوصف بنية أساسية في السرد، واتخذ أشكالا متنوعة حسب ما يقتضي السياق وطبيعة الحدث والشخصية، ليتقصى أقاصي المعنى في أفكار ومواقف الشخصيات وسلوكهم وما أصاب الناس من كوارث، والمدينة وما تعرضت له من خراب في شكلها وإيقاع الحياة فيها، أحيانا يكون وصفا واقعيا كما لو أننا نتابع مشاهد سينمائية بإيقاع سريع كما في الفصل الرابع.
أحيانا أخرى يتخفى تحت قناع “السيناريوهات” التي يبتدعها حسان كما في تلك التي ابتدعها ليصف شخصيته الشكاكة نتيجة الظروف غير الطبيعية التي مرّ بها في سنوات الثورة، وتلك التي تخص “رحاب”، ومرات يكون بواسطة الحوار ففي الفصل الثالث / الفقرة الأولى وصف لنا طبيعة العلاقة بين المؤسسة الدينية والدولة، وبين المسيحيين والمسلمين، ولولا ذلك الحوار الغني العميق الحيوي الذي دار بين”أم جورج” و “أبونا” حين طلبت منه التوسط لدى الحكومة من أجل معرفة مصير ابنها، لكنّا تجاوزناه كما نفعل مع المقاطع الوصفية التي تتطرق لمواضيع مثل هذه، ولما كنا عثرنا في الفصل الرابع على تلك الجملة الجوهرية في أحد نقاشاته مع رحاب التي تخبئ طيها قصد الكاتب من كتابة روايته: (التاريخ قادم فيما بعد، لكنه اليوم لايثبت شيئا، الواقع هو كل شيء) هذه الجملة تكشف قصد الكاتب من روايته : كتابة الواقع كي لا يضيع في روايات التاريخ المزورة من أجل إحقاق عدالة ولو مجازية للضحايا الذين لم يحصلوا على عدالة إحصاء أعدادهم الحقيقية، وضياع تفاصيل النكبة أسبابها ووقائعها الفريدة ربما في تاريخ البشرية.
لابد من الإشارة أخيرا إلى لغة السرد الحواري كيف يتناسب مع طبيعة الشخصية ، أكثر مانلحظ ذلك في لغة القس “أبونا” مرة تكون حارة عاطفية لاهوتية أو إنسانية مع أم جورج وآلامها، وفي لحظة تالية تكون واقعية براغماتية وأحيانا انتهازية مع المسؤولين الذين قابلهم، نلحظه أيضا بلغة سومر المتدافعة المباشرة الواضحة الصريحة الجارحة.
كتب فواز حداد روايته “يوم الحساب” لتكون الثالثة بعد الشاعر وجامع الهوامش وتفسير اللاشيء باستراتيجيته الجديدة، قصر الرواية، تكثيف السرد بحنكة ذكية، وحرفية عالية، ولغة تمور بالحياة القلقة، والعقل المرتاب، والصراع مع الذات قبل الآخر، والصراع مع الآخر ابتغاء الاقتراب منه، ودائما بامتزاج الضحكة الساخرة، مع دمعة الحزن الحارقة.
وأجزم أنه لم يكتب روايته “ليمنح أملا للسوريين” كما كتب البعض، وفي الأصل ليس من شأن الكاتب أن يمنح أملا للناس، ولا أن يغرقهم في بحر اليأس.
أخمّن أن الأمل الوحيد للكاتب فواز حداد أن تمتلك روايته الأسباب الموضوعية لتعيش لأزمان قادمة، يقرأ فيها السوريون تاريخهم الحقيقي.

سهيلة بو سعيد