يتبدّى النشاط الأوسع للخيال في رحاب الفن والأدب، يُفرغ فيها طاقته المثيرة، من دون إغفال فعله الملموس في مجال الدعاية والأزياء وتصميم المنازل والسيارات والمجوهرات… لا يخلو منه نشاط إنساني، ففي مسارب الواقع نسير على هداه، مع التحرّز مما قد يحيق به من خطر في حال طغيان الواقع، ما يهدّده بالضمور، إن لم يكن بالانسحاب، فيتوارى في واقع يزداد فقراً.
لا يمكن الاستهانة بوقفة الإنسان الشهيرة المتجددة عبر الزمن، عندما رفع عينيه مبهوراً نحو السماء المنارة بالنجوم، ثم جال ببصره نهاراً، مأخوذاً بلوحات الطبيعة الخلابة، يفكر في كنه الخيال الخفي وراء صناعة لا يتوقّف سحرها عن الادهاش سواء بأدق الأشياء أو أكبرها، بجمالية لا تجارى من فرط ثرائها وتنوّعها اللامحدود. لم تغفل الأديان هذه الملاحظة التي تلعب دوراً في صالحها، إنه الخيال الهائل الذي لم يعمل على تصميم جمال الطبيعة فقط، بل وكان وراء صناعة الكون والحياة والإنسان.
يصعب فصل الخيال عن الإنسان، إذ يسري في تلافيف رؤيته للعالم، يتبدى تأثيره اللافت في الشعر والرواية والفن التشكيلي والسينما وأفلام الأطفال وأفلام الخيال العلمي والرعب والغراميات بأنواعها… كفسحة للمتعة والترفيه.
” لم يعدم الخيال الوسائل في الإطاحة بادعاءات التسلّط”
وإذا كان قد استأنس بالأحلام، لكنه فاقها بجلاء معاني شطحاته، مع أنه استمدّ منها عبثه وتعثراته العشوائية، غير أن للأحلام عوالمها، فهي خاصة بالشخص نفسه، مفرداتها عائدة إليه، ما تعنيه له، لا تعني غالباً الشيء نفسه للآخرين، ثم إنها غير منطقية، تحتاج إلى تفسير، تلك البدعة التي انتزعها علم النفس من مفسّري الأحلام، مهنة مارسوها بلا شهادات واختصاصات، بالاستعانة بالتخمين، وأخفقوا بها، بعدما تخفّفوا من الخيال، وجَدوَلوا رموز الحلم، وقوننوا دلالاته، فابتلي بالجمود، وفقد حيويّته، وإذا كان علم النفس قد انبرى وأخذه على عاتقه، لكنه لم يفلح كثيراً، إذ لكل منا أحلامه وتداعياتها في النفوس، بينما تابَع الخيال مسيرته في الأدب والفن، يؤثّر فيها ويبتكر دوراتها وتقلباتها وارتداداتها.
يكمن الإخفاق الإنساني في النكوص عن الخيال، بالخوف منه، واستبعاده من الواقع اليومي والفكري والسياسي والاقتصادي… وكأنّه في أن نكون واقعيّين إمساك بالحقيقة الناصعة، وفي هذا قصر نظر، يستفحل مع الوقت، فالحياة إذا كانت واقعاً فقط، تستأثر بنا، تأخذنا مظاهرها المرئية، عن استبصار آفاقها غير المرئية.
تقع الرغبة بالتخطّي والانطلاق في صميم التطلعات البشرية، ويتعطّل تفعيلها إن لم تكسر الحدود والحواجز، وتفتح المنافذ والسبل نحو الوجه الآخر والأعمق للحياة، المتخفي تحت طبقات من الجمود والاستقرار المخادع، ينحو الخيال إلى تعريتها، بلا خشية من التخفف من سطوة الواقع.
يتكهّن الخيال بالحقيقة من خلال الواقع وليس من دونه، وربما كان الخيال الروائي المغامرَ الأكثر براعة في خوض غمرات الحياة والفكر والبشر، باعتباره الأصلح للحفر في الدولة والمجتمع والسياسة، والأقدر على اقتحام خفايا الواقع، وردم ثغراته، ليس بالقفز عنها، وإنما بالتوغل فيها.
كمثال روائي أثبت حضوره، أمكن تفكيك الدولة الشمولية والكشف عن آلياتها، بمشهديات روائية، أخذت أبعادها القصوى بلا محاذير بالاستعانة بالخيال، وغاصت في أعماقها بإبعاد ضجيج الشعارات الملتهبة للنضالات الزائفة الهادفة إلى تأبيد سلطتها. إذ لا تعدو الدولة الشمولية أكثر من خديعة كبرى محاطة بالأسرار التافهة، تحرسها أدوات القمع الفجة. فإذا كان الطغيان يطمح إلى تشكيل واقع وحيد، فالخيال لم يعدم الوسائل في الإطاحة به والسخرية منه، وفتح الأبواب نحو واقع أشبه باليوتوبيا.
يستند الخيال الروائي إلى مرتكزات على الأرض، وما العوائق إلا افتعال للغموض، غالباً ما شكّل الخيال في مواجهته أداة الروائي الأساسية، والمِعول الضارب في دهاليز الدبلوماسية، وادعاءات وكلاء السلطة، ودعاوى “المثقفين” الأجراء، وأقبية التعذيب، وجيوش السياسيين ورجال المخابرات والوشاة.
الرواية، لعبة الروائي الأثيرة، الساخرة والجادة، لا رواية من دون خيال، مثلما لا واقع من دون خيال؛ من خلالها يتجاوز كونه فرداً وحيداً، ويتعدّى واقع عزلته وينخرط في المجتمع والعالم والحياة.
-
المصدر :
- العربي الجديد