يحدث مثلاً أن نقرأ شعراً لأحد الشعراء، وكان قد كتبه منذ سنوات مرت، لنرى بعدها تلك الأبيات تتجسد حقيقة على أرض الواقع، مثل أشعار نزار قباني الذي نعتبره أدبياً وشعرياً سابقاً عصره في الطرح، وفي الوزن وفي الرؤية، فهو القائل فيما قاله:
مطاردون كالعصافير.. على خرائط الزمن..
مسافرون دون أوراق.. وموتى دون كفن..
نحن بغايا العصر.. كل حاكم يبيعنا ويقبض الثمن
نحن جواري القصر..
ولا يقتصر الأمر على الشعر، بل يمتد للأدب والرواية والقصة، فنرى أيضاً ما كتب وسطر فيها يتجسد حقيقة وأحياناً على شكل مسلسل تلفزيوني، وهنا في هذا المقال لا أشير حصراً إلى المسلسل الكرتوني “سمبسون”، بل أشير إلى واقع حقيقي صِيغ بقالب أدبي محكم، وكان ضمن فصول رواية، كتبت في العام 2007 ليحصل ما ورد فيها في العام 2011، بعد مرور سنوات قليلة.
ما نتحدث عنه هنا، هو رواية (مشهد عابر)، وأما الكاتب فهو فواز حداد، ومسرح الرواية وطن عريق ومعذّب اسمه سورية.
وإذا ما بدأنا عن الكاتب فواز حداد، الذي ولد في دمشق في عام194٧، وكتب القصة والرواية مبكراً، إلا أنه بدأ في النشر في الأربعين من عمره، فهو يعتبر في مرتبة العابر للأجيال في الرواية السورية. فليس لديه أية قرابة مع الرعيل الأول في الرواية السورية الجديدة، من أمثال حنا مينة، حيدر حيدر، هاني الراهب، خيري الذهبي، وليد إخلاصي، ولا مع الأجيال التي جاءت لاحقاً، والتي بدأت في السبعينات والثمانينات، وإن كان لا يختلف كثيراً عن هذه الأجيال من ناحية الموضوعات، لكنه يختلف في خصوصية البناء السردي وعمق المعالجة، وينتمي إلى نمط النساجين الذين يأخذون العمل على محمل الصبر. غير منقطع عن الإنتاج منذ بدأ الكتابة، ويعمل بدأب شديد وصمت، ولا ينشغل بالإعلام والنقد الذي لم يعطِه حقه… وخاصة بعد أن تم التعمية عليه، وعلى أعماله من بعض المتنفذين الذين يشبهون شخوص رواياته، المتمثل بنظام فاسد أو مستبد أو جاهل.
كيف لا، وكاتبنا هنا من أبرز الروائيين السوريين القلائل الذين واكبوا الثورة السورية، واستقصوا تفاصيلها وأسبابها ونتائجها، معبراً عن تضامنه المطلق معها، وتفرغ للكتابة كلياً عنها، منذ خروجه من سورية في العام 2012 سورية تلك التي لم تخرج منه.
رواية (مشهد عابر)، التي نشرت عام ٢٠٠٧، كانت فصولها تقول: إن هكذا واقع لا بد أن تؤدي ظروف الحياة به ليثور الشعب، ويسقط كل أسباب هذا الظلم المهيمن. وهذا ما حصل فعلاً، إذ انفجرت الثورة السورية في العام 2011، وكأن الرواية استشعرت إرهاصات الثورة، وكما يرى أديبنا فواز حداد أنّ “الروائي لا يكتب بمعزل عن البشر”، وأنّ “الرواية تتفاعل مع عصرها، ومع ما يعقبه من أحداث وعصور”، لتجسد (مشهد عابر) ما قاله كاتبها حرفياً.
الدمشقي الذي لا يتقن الولاء
ترصد هذه الرواية حياة بطل قصتها “أحمد ربيع”، ذلك الشاب الدمشقي القادم من أسرة متواضعة، والذي نشأ ووعى واقع الحياة العامة، والده متدين عادي، زرع في ذهن ابنه الموقف المعادي من السلطة السياسية التي تتحكم بسوريا، هو لا يعي ما حصل من أحداث الثمانينات من القرن الماضي، والصراع بين النظام السوري وبعض الفئات المحسوبة على التيار الديني وغيرهم، وآلاف القتلى والمعتقلين والملاحقين السياسيين في سوريا كلها، وانعكاس ذلك على بعض المدن تدميراً وقتلاً واعتقالاً خاصة حماة ومدن الشمال السوري، وكيف طالت كل من عارض النظام وحتى لو لم يكن إسلامياً.
لم يلتحق أحمد بمنظمات النظام القادمة نسخاً من دول ذات حكم استبدادي شمولي كالاتحاد السوفييتي، وكوريا الشمالية، والتي كانت ترافق الطفل في سورية، حتى يتخرج من الحياة كمنظمات الطلائع والشبيبة والاتحاد الوطني، وتهرّب كل الوقت من الدخول في حزب البعث، فهذه التشكيلات هي المعبر، لكي يستطيع الإنسان في سوريا أن يحصل من خلالها على ميزة ومكتسبات، وإلا فهو متهم أنه معادٍ للسلطة، التي تتصرف وفق مقولة: من ليس معنا فهو ضدنا، إضافة لاحتمال ألّا يحصل على فرص عمل، وتبقى شؤون الحياة مغلقة أمامه كل الوقت.
ليتخرّج من الجامعة ويجلس ينتظر فرصة عمل، وبالنهاية يساعده أحد أصدقائه بالتوظيف في إحدى الصحف الرسمية، وكل الصحف رسمية، وكلها تتابع أخبار السلطة مدحاً وإطراء، كثيرة هي المناسبات التي تمجّد بها السلطة، ذكرى “الثورة”، والحركة التصحيحية وحلقات الدبكة والقائد الرمز.
يحاول أحمد (بطل الرواية) ألا يشارك إلا بالحد الأدنى، وانتدب لمتابعة الشأن المسرحي، وهو أقرب لأن يكون عالماً منفصلاً عن الواقع، رواده محدودون جداً وأقلية، في البداية استهجن هذه المهمة ثم أحبها، فهي تعفيه من الخوض في السياسة وضرورة مدح النظام، وأصبح مع الوقت مرجعاً، له رأيه ومن يتابعه في الأوساط الثقافية. لم تدم الوظيفة له كثيراً، فقد رصده زملاؤه المخبرون الكثيرون المنبثون في كل مفاصل عمله والمجتمع عموماً، بأنه يتهرّب من المناسبات الرسمية، ولا يقدم فروض ولاء الحب والامتنان والطاعة للنظام وقادته، وسرعان ما تصل التقارير إلى الأجهزة الأمنية، التي حسمت أمرها وفصلته من عمله، فالولاء عند أجهزة الأمن يسبق كل مؤهل وإمكانية وعطاء.
يعود أحمد إلى وحدته، إلى أن تأتيه دعوة إلى المسرح، ويذهب إلى هناك ليلتقي بفتاة ضمن ظروف ملتبسة، ويتحدث معها، وتنصحه أن يكون حذراً، فيستغرب من ذلك، ولم يعرف مما يجب عليه الحذر وكيف؟!
وفي يوم جاءته إحدى صاحباته من أيام المسرح، “دنيا” إحدى الممثلات التي كان له معها علاقة سابقة دون علم زوجته، ولفترة محدودة وانتهت، و” دنيا ” هذه انتقلت من أن تكون فتاة مسرح بأدوار صغيرة ومتواضعة، لتكون عبر شبكة بيع الجسد، لذوي النفوذ من شبكة المهيمنين على الدولة والسلطة والمال وكل شيء، وتصبح ذات ثراء وتعيش في مسكن في حي راقٍ، وشبكة علاقات قوة ومصالح، جاءت إليه تذكره بالحب الذي كان، وبأنها تريده وعرضت عليه الزواج مجدداً مع بعض التعديل، لكنه رفض وذهبت. ليداهم بيته مجموعة أمنية ويؤخذ لجهة مجهولة، ويتعرض لتعذيب شديد، دون أي كلمة، وأخيراً يطلب منه أن يوقع على اعتراف لم يعرف مضمونه، يوقع وهو بين الحياة والموت…
الاعتراف مضمونه أنه على علاقة مع الممثلة “دنيا”، وأنه استغل هذه العلاقة واعتدى جنسياً على أختها القاصر “دينا”، وأنها حامل منه، وعند تحويله لقاضي التحقيق أنكر كل شيء، وأنها مكيدة يراد بها تحميله وزر عار البنت، وطلب منه أن يختار بين أن يتزوجها لخمس سنوات على الأقل، وينسب الطفل له، وأن تستمر بحياتها عند أختها بكل الممارسات التي كانت عليها، أو أن يدخل للسجن لسنوات مديدة..
أخبر” أحمد” قاضي التحقيق بقصة علاقته السابقة بدنيا، وإنها أرادت أن تحمّله ما أصاب أختها، فهي على علاقة مع شبكة من المتنفذين وأصحاب المال والسلطة، ولا بد أن تكون البنت وقعت ضحية أحدهم، وأرادت تحميله الجرم، وتقبض الثمن من الآخر.
القاضي المخبر والمحاكم الصورية!
القاضي يستدعي الفتاة، وظهر أنها أقرب للبلاهة وتحدثت عن كل شيء للقاضي، تحدثت عن رجل يأتي إليها كل ليلة، محملاً بالكولا والمأكولات، يتحدثون ويأكلون ويشربون ويمارسون الجنس، وهي سعيدة معه، واعترفت أن حملها منه…
وهنا تدخلت كثير من الجهات الأمنية، ونائب الوزير للإسراع بإنهاء التحقيق، وتحويل المتهم للقاضي “البروشي” الملقب بقاضي القضايا المميتة، من هو هذا القاضي؟ إنه من مدينة بعيدة انتسب إلى حزب البعث مبكراً، وكان يعمل مخبراً عند الأمن، وشى بكثير من الحزبيين حوله ممن لم يؤيدوا الحركة التصحيحية، كان وراء تصفية بعضهم، كسب ود السلطة، لكنه خسر احترام بيئته الاجتماعية، أرادت السلطة أن تكافئه بتعيينه قاضياً في محكمة أمن الدولة، المختصة بالفصل في قضايا معارضي النظام، وهي محكمة صورية، مهمتها إسباغ الوضع الشرعي الشكلي على قرارات الأجهزة الأمنية، من قتل وسجن المعارضين للنظام، أصبح البروشي صورة عن الظلم والبطش والأحكام القاسية، وعيّن بعد صراع بين الأجهزة الأمنية وحزب البعث، وتأكد هيمنة الأمن على الحزب والدولة، قام بدوره كقاضٍ بكل التبعات السيئة، وصار اسمه يقترن مع القتل والأحكام القاسية والجائرة، وحصّل مكتسبات كثيرة من موقعه ودوره، ولكنه وقع في خطيئة عمره، عندما حكم على ابن أحد رؤساء العشائر الذي تربطه بالرئيس علاقة، وأدت إلى إبعاده من موقعه وتعيينه قاضياً في المحاكم العادية، واستمر يحمل سمة القاضي الظالم. لكن المحقق قرر في لحظة شهامة أن يقبض على المتهم الحقيقي، الذي اعترفت عليه الطفلة القاصرة “دينا”، وفعلاً ضبط بالجرم المشهود وأدخل السجن وتم تبرئة أحمد من التهمة.
الجادور وثروة السلطة والنفوذ!
لكن من هو الرجل الذي قبض عليه؟ إنه “فالح الجادور” ضابط الأمن السابق الذي كان له حضوره وقوته ودوره أيام الصراع بين النظام والجماعات الإسلامية المقاتلة، والذي أصيب في إحدى المداهمات؛ الأمر الذي أدى لإبعاده عن الأمن، وعين رئيساً لأحد مرافئ الساحل السوري، الذي شكل له مورداً مالياً كبيراً، عبر المرفأ تمر كل الصفقات وأعمال التهريب، فالمرفأ أحد أهم رئات تنفس الاقتصاد السوري، تستفيد منه وعبره شبكة كبيرة من ممولي النظام وشبكاته الأمنية والعسكرية والسلطوية، ولكن “الجادور” تجاوز حده بالنسبة للمرفأ، مما أدى إلى نقله ليكون محافظاً لمحافظة نائية، لم يكن نقل “الجادور” بالسهولة المتوقعة، السلطة في سوريا، تعتبر نظرياً سلطة حزب البعث، وعملياً هي سلطة الاستخبارات والأمن، و”الجادور” منهم فكيف يتم كف يده، لكن هناك سلطة أعلى منها، وهي سلطة القصر الجمهوري، الرئيس ومن حوله، حيث تتواجد العقول الإستراتيجية التي تحرك كل شيء في سوريا وتتحكم فيه ..
يقبل “الجادور” بموقعه الجديد، وبدأ يستثمره على أحسن وجه، التوسع العمراني العشوائي، رخص البناء، وحفر الآبار، وتوسيع المناطق التنظيمية.. الخ، كل مرافق الحياة تحولت لموارد مالية كبيرة عند “الجادور”، بحيث أصبح يتربع على إمبراطورية مالية، صار أكثر حرصاً وبخلاً، بعد تجربة المرفأ، وإنه قد يفقد كل شيء في لحظة، فالمال هو أمانه الوحيد، ودائع البنوك في الداخل والخارج، سبائك الذهب، العملة الصعبة، الأدوات المنزلية المهداة له، كان يقبل كل شيء ويعيد تدويره بيعاً واستثماراً، لم يستمر حال “جادور” هكذا، أصيب برأسه، عندما سقط عليه براد عند تفقده لمستودعه، الإصابة أدت لاختلال عقلي أعادت الجادور للمرحلة الطفلية، وعاش هذه العلاقة المرضية الجنسية مع الفتاة القاصر “دينا” محملاً بالكولا والمواد الغذائية في كل ليلة يتحدثان، ويأكلان ويمارسان الجنس، ثم ينسحب خفية لليوم الثاني. وهكذا تبين أن خصم أحمد في المحكمة له دعمه الأمني والمالي، بحيث تم إخراج “الجادور” من السجن، وعودته لحياته السابقة..
للجادور هذا أولاد أعادوا تقسيم تركة والدهم في حياته، لكل منهم حكاية، الكبير “محروس” عشيق “دنيا” والمتحكم بإخوته وثروة والده المالية، استمر برعاية والده وزياراته الليلية إلى “دينا” القاصرة أخت عشيقته، وأمه التي أعطيت من المال ما تعوض به عن غياب الزوج، وأن تصبح وابنتها جزءاً من المجتمع النسوي السوري، نساء رجال المال والأعمال والسلطة، الأخت التي عاشت أكثر من علاقة وتزوجت كما تحب، والأخوة الذين ضاعوا بين ترف ومخدرات…
إذن لا أمل أمام أحمد بأن يأخذ حقه، ويرد اعتباره أمام “جادور” وأولاده في ظل هذا الواقع المثقل بالفساد…
المسيحي يساعد الجماعات الإسلامية!
يخبر أحمد صديقه “جميل” المسيحي الدمشقي المصور الفوتوغرافي المطلع على خفايا، وكل ما يحصل في أوساط الدولة والمجتمع، اليتيم المدلل، تربية عمات وخالات عوانس، الذي لا يترك موضوعاً عاماً أو خاصاً إلا ويبحث عنه ويصل إلى تفاصيله الكاملة، فهو إذاعة أسرار متنقلة، يعرف أخبار المجتمع المغلق لرجال السلطة والمال والأعمال، الصفقات والفضائح وكل العيوب، ويتبرع ببثها حيث يتواجد، ووقع أخيراً في يد الأجهزة الأمنية، فقد تجاوز حده، حيث اقترب من موضوع صديقه وصاحبته السابقة “دنيا”، وصاحبها محروس ابن “الجادور”، وكان لا بد من تأديبه بقضية يسجن فيه سنوات طويلة، ليحتجزه الأمن ويعذبه وينسب له تهمة مساعدة الجماعات الإسلامية المتطرفة ويودع السجن، لكن عماته وخالاته يتحركن في كل الاتجاهات لإنقاذه، ويصلن للقاء قادة الكنيسة الروحيين، دون أن ينجحوا بإنقاذه، لكن مجيء البابا حينها إلى سورية ومحاولتهم رؤيته، دفعت الأجهزة؛ لأن تفرج عنه ويعود إلى حياته، وكأنه عاد من الموت..
يقترح “جميل” على أحمد أن يلجأ “لأم راما” زوجة الاقتصادي اللامع “عبد الحميد الصطوف”، الرجل الذي عمل في الدوائر الاقتصادية العليا للدولة، وكان عقلها الموجه لأم راما، واكتسب من مواقعه المهنية وتجاوز فقره وضيق حاله من بيئته السابقة، ذهب لخارج القطر، وعاد يحمل شهادة الدكتوراه بالاقتصاد، توظف واستفاد من الفساد واكتشف أمره، وطرد من وظيفته، لكنه استمر مرجعاً اقتصادياً كبيراً للسلطة، تزوج من “رباب” ابنة قريته الغنية، التي راكم والدها المدرس أمواله من عمله مديراً للمؤسسة الاستهلاكية، واستفاد من السوق السوداء والسرقات، فأصبح صاحب أملاك ومال، وبعد سنوات طرد من عمله، لكنه كان يتربع على ثروة، رباب تزوجت من الصطوف لكنها لم تقبله نفسياً، إحساسها بتفاوتها عنه، غناها وفقره، لكن سرعان ما سوف يصبح ثرياً، وله عالمه الذي يعيشه، متهتك ومريض جنسياً، وهي أنجبت منه راما وأختها، وأرادت أن تبني لها مجدها المالي، وتصبح صاحبة أعمال، فقد اعتمدت على شبكة علاقات السلطة، ودخلت للعالم السري للمجتمع والسلطة وشبكات النفوذ، وصارت صاحبة كلمة وحل وربط، تستخدم نفوذها، وتزيد من قوتها المعنوية والمادية.
أنت من دمشق لا تحتاج مساعدة!
يذهب إليها أحمد ويبدأ بشرح قضيته، لكنها عندما علمت بأنه من دمشق طردته، وقالت له: اذهب أنت من دمشق لا تحتاج مساعدة. أم راما أو رباب كانت تعمل لبناء مجدها وإمبراطورتيها الخاصة، وفي الوقت الذي تزدري به زوجها، وحين أصبحت ممتلئة مالاً وجاهاً وسلطة، أحست بحاجة للحب لتحصل على الخير كله، أحبت أحد أصحاب المحلات الدمشقية، وصارت تتردد عليه، وهو التقط اهتمامها به، وبدأت بينهما علاقة تحولت لحب عاصف، استمر لأشهر، أرادت أم راما أن تحتكره لنفسها، وأن تطلق زوجها وتتزوجه، أما الشاب فقد تجاوب معها في البدء، فأغلب العلاقات تبدأ بشغف وتعويض عن أزمة ما، وتنتهي بعد حين، إلا أم راما فقد أرادت أن تستعبده تحت اسم الزواج، مطاردة بالليل والنهار، مراقبة، شك، صراع، غيرة لا حل لها. فما كان من الشاب إلا أن باع ما يملك وهرب لأوربا، وحقدت أم راما عليه وعلى الدمشقيين، ولم تنسَه أبداً؛ لذلك طردت أحمد دون أن تساعده.
عاد أحمد من حيث بدأ، ولم يجد أحداً يمد له يد المساعدة، وزاد على ذلك أن واجهه مجموعة من الشبيحة فضربوه وأهانوه، وهددوه إن اقترب من “دنيا”، سيكون مصيره أسوأ من الموت..
وفي موسم مسرحي قادم سيلتقي بالفتاة ذاتها في المسرح، وعبر دعوة مجهولة، تتحدث معه، وتدفعه إلى أن ينسى ما حصل معه، وأن يعتبره مجرد مشهد عابر في حياته، ويفكر بالأمل والمستقبل، يتركها ولسان حاله يقول: لا أمل ولا مستقبل.
نحن المشهد العابر!
تنتهي الرواية التي تأخذنا في أسلوبها السردي الذي يبدو حياديا في الظاهر، وكأنه يتكلم عن المريخ، لكن كل شيء يقول: إنها دمشق الحبلى بالمظالم والتمييز… إنها حياتنا ومجتمعنا وعارنا نحن. إنها السخرية السوداء دواء حكايتنا، الشفافية، الغوص عميقاً في كل التفاصيل، لتكتمل صورة الخراب المجتمعي العام: سلطة تهيمن عبر شبكات حزب البعث والأمن والجيش والمتنفذين على كل مفاصل الحياة، لا حياة اجتماعية أو اقتصادية أو سياسية إلا من صنعهم ومن أجل مصالحهم، ونحن الناس الشعب الأفراد، “مشهد عابر” مجرد أدوات وبيادق على رقعة النظام يلعب بنا كيف يشاء وأنّى شاء، كل شيء تحت السيطرة ويخدم ثلة الحكم، راعية الفساد والاستبداد والقهر والتخلف وإعادة تدوير المآسي الحياتية جميعها…
حيث تقول الرواية بما تحمله من متغيّرات في المفاهيم، وتعتمد أكثر من قراءة، حكمة واضحة:
“إن هكذا واقع لا بد أن تؤدي ظروف الحياة به، ليثور الشعب ويسقط كل أسباب هذا الظلم المهيمن، وهذا ما حصل فعلاً”.
-
المصدر :
- العربي القديم