لعبت وسائل التواصل دوراً في الحدث السوري منذ عام 2011، إلى هذا الفاصل الأخير الذي تجلّى في سقوط النظام، وكان لها تأثير كبير في نضال الشبّان في التنسيقيات، كما أنها احتوت نزاعات الأطراف والتيارات مع بروز جائحة الذباب الإلكتروني، على الرغم من الرقابة خلال الثورة والحرب.

بعد صدمة انهيار نظام الأسد ودخول قوات المعارضة المسلّحة دمشق، باتت مسرحاً لبثّ الذعر والخوف كذلك الأمل والرجاء. فقد دأب مثقّفون يساريون راديكاليون، إضافة إلى ليبراليين محنّكين، ومعهم بضعة حداثيين أشدّاء، على شنّ حملة من الانتقادات اليومية لا تهاون فيها، تختلط فيها الحقائق بالشائعات والأكاذيب، مغلّفة بالسخرية من “هيئة تحرير الشام” و”إدارة العمليات العسكرية”، والتركيز مؤخّراً على حكومة تصريف الأعمال، وما تُصدره من قرارات.

فحوى الانتقادات أن الحكومة من لون واحد، من ذوي اللحى، لا يُخفون سلفيّتهم، بمعنى ما متطرّفون، بالتالي شُبهة الإرهاب واردة، إن لم تكن ملتصقة بهم، عدا أنهم مطلوبون من أميركا. ثم إن وزير العدل يُريد إرسال القاضيات إلى بيوتهنّ، وفرض الحجاب على النساء، وربّما البُرقع، وإجبار الناس على الصلاة، وتقديس الأشخاص، والتلويح بعلَم “داعش”، كما المفروغ منه، عدم قدرة الحكومة على إدارة بلد معقّد بحُكم أديانه ومذاهبه وتنوّعه العِرقي، من دون أخذ حساسية موقعه بالحسبان، وكثرة الطامعين فيه، وتمتُّع الحكومة بخبرة لا تصلح لسورية المتنوّعة بالمقارنة مع إدارة إدلب المتجانسة سنّيّاً… ما سيأخذ البلاد إلى المجهول، المقصود بالمجهول هو الجحيم، الذي شهدنا بعضاً منه كمثال في “سجن صيدنايا”، وكان بمثابة التحذير.

أن نشارك في مستقبل سورية بدلاً من مصادرته والتشويش عليه

جرت محاولات لنفي وساوس المثقّفين من ناحية ألّا تفكير لدى مسؤولين في الهيئة باتخاذ إجراءات متطرّفة، أو فرض الحجاب، ولئلّا يُظنّ أنهم يعملون على دولة شرعية، أوقفوا الأناشيد الدينية من البثّ التلفزيوني، وأزالوا عَلمَ الهيئة، وتعهّدوا بعدم إجبار أحد على تغيير معتقده، أو إرسال القاضيات إلى بيوتهنّ، وحظروا وضع الصور على السيارات، كما أنّ أحمد الشرع بالذات أكّد أنه “لا يحقّ للسُّلطة أن تفرض على الناس العبادة، ولا تُريد تحويل المجتمع إلى مجتمع منافق، إذا رآنا صلى، وإذا لم يرنا لم يُصلِّ”.

لم يقبل مثقّفو وسائل التواصل الحذرين عُذراً، وهو من حسن الفطن، حسب زعمهم أن الهيئة تتصرّف بخُبث وذكاء، وتعلن ما يريد الغرب سماعه. ومن الغباء اعتقاد أن سورية العهد الجديد ستكون بلا سجون وبلا تعذيب وبلا طائفية.

حسناً، لن نأخذ بأقوال السلطة وإنما بأفعالها، لكن يبدو حتى الآن أن أفعال السلطة لم تتناقض مع أقوالها، فكان الردّ، إذا لم تتناقض اليوم فسوف تتناقض غداً. وطاولت الاتهامات الهيئة بأنها لن تقصّر في التطهير العِرقي والطائفي، وقد تؤدّي إلى حروب إبادة للأقليات المتمرّدة، مع أنّ السلطة الجديدة أكّدت عدم الانتقام والثأر، فالمحاكم قادمة والعدالة قادمة. لكنّ مثقّفي الفيسبوك في نقاشاتهم طالبوا وللضمانة بسورية اتحادية غير عربية وغير إسلامية، وربما تتبرّأ من الإسلام.

ولئلّا نُوحي بأن النقاشات دارت بين مثقّفين فقط، فقد تدخّل فيها الكثيرون من الذين وجدوا في أنفسهم الكفاءة، وكانت عبارة عن مخاوف لهم الحقّ في طرحها، لكنها لم تكن مفيدة، إزاء مثقّفين اتّخذوا موقف المنتقد المحنَّك، وكشفوا عن بصيرة حادّة، حول هؤلاء القادمين من الشمال، من “الريفيّين الأغرار المتأسلمين”، ما أدراهم بالثقافة والعلمانية والديمقراطية، واليسار، واليمين والحداثة؟

من كانوا يحكمون البلد لا يمكن وصفهم إلا بالمجرمين واللصوص

ومثالا عن تأخُّرهم وتأخُّرنا، يعطينا مثقّفونا، درساً بما يعمل عليه المثقّفون في الغرب، من ناحية أن لديهم زاداً لا ينضب من القضايا: قد ينبذون الديمقراطية إلى نظام كوني أكثر ليبرالية، بالنظر إلى أنهم حقّقوا مأثرة زواج المثليّين وطرحوا قضايا الجندر، ولا يكفون عن ابتداع الحداثة وتجديدها، بينما نحن عالقون في الحجاب والمآذن والبراقع واللحى… والإسلام بكلّ مظاهر تخلّفه، لا يُمكن اللحاق بالغرب إلّا بتغيير المجتمع على حدّ قول أدونيس. وليته يعفينا من تعليماته ونصائحه، كان الأَولى أن يقولها للرئيس اللصّ والمُجرم.

لنعُد إلى قصتنا السورية، بعد أكثر من نصف قرن من القمع المطلق، يستعيد الشعب الكرامة، والإحساس بالحرّية، لا تسوّل للخبز والكهرباء والوقود… والأجدى في هذا الصدد، تعليم شعبنا الدفاع عن حقوقه أمام السلطة الجديدة، أما مثقّفونا فيحتاجون إلى تأهيل، ليدركوا أنّ الحرّيات ليست معطىً جاهزاً، بل معطى يُنتزع من الواقع.

سورية موعودة بانتخابات نيابية خلال عام 2025، ستحصل تحت إشراف دولي، يجب الاستعداد لها، بوسع أصحاب الرؤى الحضارية والسياسية والثقافية، خصوصاً من هُم في الخارج العودة إلى البلد ونشر أفكارهم وتطلّعاتهم وتشكيل كتلة وازنة مع مثقّفي الداخل يخوضون بها الانتخابات. وإلّا كان ما يتحدّثون ويكتبون عنه لا يزيد عن تلك الثرثرة المَرضية النرجسية التي ابتُلى بها أنصاف المثقّفين، والتي أدّت من قبل إلى هزيمة اليسار العلماني الملفّق، فالناس لم يصبهم من يساريته إلا الادّعاء، ومن علمانيته سوى غضّ النظر عن جرائم النظام.

يستمتع المثقفون بإطلاق أجمل الأفكار وأسوأ الاتهامات. لم يدركوا حتى الآن أن المجتمع السوري بحاجة إلى أكثر من الادّعاءات ولو كانت رائعة، يحتاج إلى من يُحرّره من مخاوفه، وإلى بناء دولة مدنية، بدلاً من تداول الشائعات، والتحريض ضدّ إجراءات النظام الجديد، إلى حدّ الاعتقاد بأننا كنّا في جنّة الأسد، ما قد يدفعنا إلى التحسُّر على فقدانها. لنتذكّر، من كانوا يحكمون سورية ما يزيد عن نصف قرن، لا يمكن وصفهم إلا بالمجرمين واللصوص، هل هناك وصف آخر؟

إلى الذين يريدون الإسهام في صناعة دولة مهما كان شأنها؛ مدنية ديمقراطية علمانية ليبرالية. تعالوا إلى سورية، لا يُصنع المستقبل من بُعد. شاركوا فيه بدلاً من مصادرته والتشويش عليه باصطناع المخاوف والأكاذيب.

وللعِلم، إذا كان الانتقاد مجرّد حرفة، بوسعنا انتقاد أيّ شيء.