تأتي على الأدب مواسم يزدهر فيها نوع على حساب بقية الأنواع، أو تيار أدبي طالع يبسط ظلّه، بحيث تتضاءل بالمقارنة معه تيارات كبرى، وكأن لا غيره أقدر منه، كما حدث في الرواية مع تيار “الواقعية السحرية”، من ناحية انسجام الواقع مع الخيال بكتابة استوعبتهما رؤية متكاملة. ما شكّل جاذبية لكتّاب الرواية الشبّان، فاعتقدوا ألا كتابة خارج الواقعية السحرية.

عضدها سيل من الترجمات تدفّق بكثافة إلى أسواق القراءة، فأصبح لهذه الرواية المزدهرة في أميركا اللاتينية معجبون ومريدون وكتّاب يكتبون على منوالها في بلادنا، ولم يعد هناك كاتب إلا ويحقن رواياته بقدر من شطح الخيال ليكون على مستوى الأدب العالمي.

إلى أن جاء الوقت الذي بدأت فيه هذه الموجة بالتراجع لتأخذ مكانها في تاريخ الرواية كإسهام أعاد الحيوية إليها طوال أكثر من عقد، وهو زمن لا يستهان به. وقد سجّل هذا التيار حضوره بتقلد اثنين من كبار كتابه، ماركيز ويوسا جائزة نوبل.

هذه الظاهرة حكمت تاريخ الأدب منذ ظهوره، فالرومانسية ومثلها الطبيعية والواقعية بتنويعاتها العادية والاشتراكية والقذرة، وربما النظيفة أيضاً. ولا ننسى تيار اللاوعي وصاحبه جيمس جويس، في روايته المعروفة “عوليس” التي احتلّت مكانة سامقة، وكان لها تأثير كبير استفادت منه الرواية بشتى تياراتها.

” تبسط المواسم هيمنتها على الثقافة، وتضع غيرها على الهامش”

كذلك فاقت التقليعات في مجال الفن التشكيلي، المواسم الأدبية، بتسارعها وتنوّعها وغزارتها، لا تلحق تقليعة تبزغ حتى تحل محلها أخرى؛ بينما تتبدّى عظمة الأدب والفن في قدرة القديم على المحافظة على جدّته في عالم غوايته ادعاء التجديد وإلغاء ما سبقه، لكن الجديد سرعان ما يتوارى، مهما طارت شهرته، فالتجديد ليس بالدعاية والادعاء.

بالعودة الى الستينيات العربية، كان المسرح خير مثال لنهضة غير مسبوقة، للأسف لم تحافظ على اندفاعتها، استُهلكت واستُنفدت خلال عقد من الزمن، خلاله انتشرت الثقافة المسرحية، وشملت زمن الإغريق، مروراً بالمسرح الشكسبيري، إلى مسرح الغضب واللامعقول، وكان من تأثيراتها نشوء جيل مسرحي في البلاد العربية، بلغ ذروته في مصر، حتى إن كتّاباً مصريين بارزين كيوسف إدريس كتبوا للمسرح، وكاتباً كتوفيق الحكيم لاحق آخر الصرعات المسرحية في اللامعقول وكتب “يا طالع الشجرة” وغيرها.

تبسط المواسم هيمنتها على الثقافة، وتضع غيرها على الهامش، لا تبث الحياة فيها فقط، بل وتهيّئ الأجواء لإبداعات وتجديدات من دونها لا يُظفر بها، غير أن الانحدار الذي يتلوها يبدو غير مبرّر. فاليوم يصعب الحديث عن المسرح. وحتى لا نبالغ، فإن ذلك لا يقتصر علينا وحدنا، العالم كلّه يشكو من انحساره، بعد طوفان مسرحي شمل القسم الأعظم منه.

بالنسبة للعالم العربي، وكان نصيبه من الانحدار أكبر، المسألة أعمق، ما خلّفته مواسم الأدب والفن ضئيل جداً، وما حلّ بالمسرح كان انعكاساً لانحدار مسارح الحرية والعدالة والقانون إلى دكتاتوريات واستبداد وطغيان، ما يثير التساؤلات والألم.