مهما ألم بالثورات العربية من تحولات أو انتكاسات وتراجعات، فهذا لا يبطل مشروعيتها ولا أحقيتها في الخروج على دول كانت قائمة على الإجبار والعسف. الحط من كرامة مواطنيها، كان السبب المباشر لاندلاعها. فالصفعة التي تلقاها بوعزيزي، وقمع الشرطة المصرية للمتظاهرين، هو الذي دفع الشعب للنزول إلى الشارع، وهو ما اضطر السوريين إلى الاحتجاج على أساليب أجهزة الأمن في التعامل الوحشي مع الناشطين الشبان، أساليب تبدأ بالإهانة ولا تنتهي بالتعذيب، إلا في حالة الموت، موت منزوع الكرامة، حتى بات نهجاً مألوفاً ساري المفعول.
الكرامة حق طبيعي وقيمة مجردة تولد مع الإنسان وتتشكل معه. ليست امتيازاً لأفراد أو لجماعات، ولا تقتصر أو تختص بفرد دون آخر، كما أنها لا تحصل بالجهد. لكل انسان كرامته، فقيراً أو غنياً، فاضلاً أو مجرماً، شريفاً أو سافلاً، محترماً أو حقيراً… وما الخصال التي تلحق بالبشر، مثل الكبرياء والشرف، والنزاهة والإخلاص، ومثلها الصفات الوضيعة المتدنية المكانة… إلا توصيفات تكتسب بالتواصل بين البشر. لذلك كرامة رئيس جمهورية، أو وزير، أو عالم حائز على جائزة نوبل، أو طبيب بارع، تساوي كرامة فلاح أو عامل أو اسكافي أو مجرم… وهم كبشر متساوون أمام القانون، من دون أية امتيازات تسبغها كفاءاتهم عليهم، أو مساوئ تنتقص منها.
ينص الدستور على المكانة التي تحتلها الكرامة، وتُدرَج القوانين تحت سقفها، صيانة لها وحفاظاً عليها، ما يوجب على جميع السلطات احترامها وحمايتها.لا يعلو عليها قانون أو مرسوم. وتعد من أهم الأسس التي تقوم عليها حقوق الإنسان، إذ هي منبع عدالة القوانين، والمبدأ الرئيسي الذي تجد من خلاله مفاهيم الحرية والمساواة، التعبير عنها.
تلجأ الأنظمة الشمولية إلى التمييز بين المواطنين، بتصنيفهم إلى موالين وطنيين شرفاء، ومعارضين خونة عملاء، وتمزيق المجتمع إلى طوائف متنابذة، وتفتيته من الداخل، وتفكيك الأواصر التي تربط بين أفراده، وبث المخاوف فيما بينهم، ما يسهل إحكام قبضتها عليهم.
لا تتم السيطرة على البشر، إلا بإشعارهم أنه لا قيمة لهم. إن قهر المواطن، حاجة ماسة للسلطات الغاشمة كي تشعر بالأمان. الاستبداد يلغي الكرامة، والدولة الشمولية على عداء معها، وتسعى إلى سحقها. إن في تمسك المواطن بها، إدراك لحقوقه الأساسية. وتوافرها يسمح له بالاحتجاج على الدولة، والاعتراض على قوانينها واجراءاتها في حال مست مصالحه الخاصة أوالمصلحة العامة. كون الكرامة مصانة، يشكل مانعاً لتمادي السلطة وتهديداً لها. ولهذا كان البطش من أولويات السلطات الجائرة، الإجراء الأول، إذلال المواطن، بالتعدي عليه وسلبه كرامته.
في الثورات العربية، تعمدت أجهزة الأمن هدر كرامة المحتجين، وكان الرد دفاع عنها، وفي قصة أطفال درعا حجة وعبرة، كان وجهاء المدينة الذين طالبوا بإطلاق سراح الأطفال. وهي حادثة باتت معروفة. لم يسكتوا على الإهانة التي وجهها إليهم ضابط الأمن والمحافظ، ما أدى إلى مظاهرات سلمية وسفك دماء، وانتفاضة عمت سورية.
في تحصين كرامة الفرد بالقوانين، تحصين للمجتمع والوطن. في العالم العربي، القانون يمنع المساس بكرامة الناس، غير أن القوانين الاستثنائية، ومثلها المحاكم الاستثنائية، صممت لكي تسلب المواطن حقوقه، وتهديد كرامته بالانتهاك، بجعله عرضة للاعتداء النفسي والجسدي، دونما أية وقاية. الهدف، تحويله إلى مواطن يقبل صاغراً بما يفرض عليه، ولو كان منافياً للمنطق، ونافياً لحقوقه الأساسية؛ إنسان بلا كرامة، إنسان معطوب، أسير الخوف، خاضع وخنوع.
غير أن ما تقوله الثورات العربية اليوم، إن عقوداً من استباحة كرامة الشعب، لم تقف حائلاً أمام بعثها، لم يكن سباتها سوى حرص عليها، ما جعل اشهارها مكلفاً باهظ الثمن. وإذا لم يوضع القانون موضع التنفيذ ويُعمل به، فالغرض منه، هدر كرامة المواطن تحت ظل قانون خفي ينصب الطغيان الرب الأوحد في الدولة.
-
المصدر :
- المدن