منذ صدور الطبعة الأولى عام 2004 شكلتْ رواية «مرسال الغرام» قفزةً حرة في الكتابة، لا تعتمد على أي قوة دفع سوى ثقلها. وليس صدورُ الطبعةِ الثانية عن دار «رياض الريس للكتب والنشر» سبباً وحيداً يستدعي إعادة قراءتها وتناولها، وإنما ضرورة التنبه إلى التجارب اللافتة التي تختزنها هذه الرواية.
منذ الفصول المبكرة يستهل الكاتب فواز حداد أول خطوط مغامرته ـ إنما ليس أكثرها ـ غرابةً وجدة؛ حقيقة الأصوات وتنوعها ودلالاتها في العالم الواقعي بالتوازي مع عالمي التمثيل والغناء. محمود رشوم، وهو أحد الأبطال الرئيسيين في الرواية، مهووس بالأصوات، يعيش بين الميكروفونات وآلات التسجيل، له تجاربه ونظرياته في هذا المجال، يعيش قصة حب من طرف واحد مع ممثلة مشهورة اسمها ناريمان. تتعقد قصته وحياته فيترك دمشق صوب الخليج ليعود بعد سنوات وفي نيته أمران مترابطان: استئناف العلاقة ذات الوجهين؛ العاطفية والانتقامية مع ناريمان، تحت غطاء تنفيذ مسلسل من بطولتها، يحمّله رشوم خلاصة تنظيراته عن الأصوات. وهي فكرة ذات حوامل ذكية وعميقة، الفاصل بين فهمها وعدم فهمها شعرة. يشعر القارئ خلال استعراض وجوهها وتشابكاتها أنه لا يقرأ بل يسمع!
تأتي العلاقة المركبة بين الراوي ومحمود رشوم لتحدد مسار الرواية العام. الراوي شاب وحيد، ساذج، كسول وعديم خبرة، لا يعرف معنىً لحياته. تقوده إلى رشوم جيرته والمصادفة، لتبدأ بينهما علاقة محيرة تتصاعد وتتعقد لتشد الرواية وتحمي بعض فصولها من الانقطاع. وسوف تحضر هذه العلاقة على امتداد الرواية تارةً بشكل واضح وتارةً بشكل ضمني، تعترضها بعض الشخصيات لتؤثر فيها وتتأثر بها (شخصية لطيفة على سبيل المثال، المرأة التي تبيع جسدها بمقابل مادي، التي ستكشف نهايتها المفجعة مقدار الظلم والأسى اللَذين طبعا حياتها).
لن نكف عن طرح الأسئلة طوال الرواية: من منهما بحاجة إلى الآخر؟ الراوي أم رشوم؟ من القائد ومن المُقاد؟ هل سينجح رشوم في تخليص الراوي من عقدته مع النساء سواء بالتجارب التي رماه فيها أو بالأمثلة والمحاضرات التي ألقاها على مسامعه؟ هل سيظفر الراوي بإبرام عقد بين رشوم وناريمان، ويكون خير مرسال للعمل والغرام؟ من سيخرج سالماً ومن سينكسر؟ تتتالى التحولات على هذه العلاقة ويكون لها الأثر الأكبر في خط تطور الأحداث والمآلات لتكتب في النهاية فصل الختام.
موضوع التمثيل والممثلين الذي اختاره الكاتب ليكون أحد المحاور الأساسية، سيورط رشوم بمهمة كتابة سيناريو، ما يضعنا أمام مسلسل في قلب الرواية! السيناريو كامل الأركان، لكن تنقصه الخاتمة المعلقة بمصائر أبطال الرواية؛ عقدة فنية، جعلت النصين مترنحَين ومتحدَين، لا اكتمال لأحدهما إلا بالآخر! فضلاً عن السؤال المستحيل للممثلة المرشحة ناريمان، التي ستطلب من رشوم الإجابة عنه كشرط لقبولها دور البطولة، الذي من خلاله، أعني السؤال، ستُطرح أكبر عُقَد الرواية وأجملها:

■ هل هو الحب ما كان بين أم كلثوم وأحمد رامي؟
□ قبل أن ننتقل إلى المحاولات المتعثرة للجواب، نتوقف قليلاً أيضاً في عالم التمثيل: من قرأ لفواز حداد من قبل لن يتفاجأ بوضوح الصورة وشدة التمحيص. كاتب مهووس بالدقة، يهوى التشعب والتفنيد. يضع عالمَه المستهدَف تحت عدسات أدق المجاهر ليصف عيناتِه ويحللها ببراعة. يحدثنا عن الممثلين والممثلات، المخرجين والمنتجين، علاقاتهم وصراعاتهم وأحلامهم وكبواتهم. الشهرة والطريق الشائك إليها، الالتزام والاستهتار، اللقاءات العلنية والسرية، الصراعات والصرعات، وأيضاً المال والحب والتنافس والجنس والانتقام.
وإذا تهيَأ للقارئ للحظة أن «مرسال الغرام» هي خارج المشروع الروائي لفواز حداد، الذي سأسمحُ لنفسي باختصاره بأنه سردٌ ورَوي وتوثيق وتحليل لتاريخنا المعاصر في العالم العربي عامة، وفِي دمشق خاصة، مع التركيز على نبش وكشف أشكال الفساد المجتمعي والإنساني، إذا خُيل لنا أن هذه الرواية تقع خارج هذه الدائرة فإننا سرعان ما سنرتد عن ظننا من بوابة محور التمثيل نفسه، إذ سيقودنا الكاتب المخضرم لنجتاز معه هذا الباب، ويقذف بِنَا إلى متاهة معقدة ودبقة من علاقات الفساد المريعة حيث السلطة المتوحشة والقانون المدعوس والتعويم الفج لشخصيات نكرة أخلاقياً.
سنرافق الممثلتَين ناريمان (النجمة) وتغريد (الصاعدة) لنعبرَ على وقع قصتيهما إلى قضايا المال والفساد والسلطة، ولتتشابك مع قصص م.ع و ل.ع حيث الوقفة الذكية والمطولة عند مفاصل مهمة من تاريخ سوريا وجامعاتها وتحولاتها الأيديولوجية، وأثر ذلك على شبابها وأجيالها؛ طموحاتهم وتخبطاتهم وضياعهم، أطماعهم وأفكارهم، أخلاقياتهم ووسائلهم، ثم تموضعهم ضمن شبكة خبيثة من رجال الأعمال والضباط والمخابرات، أصحاب الكلمة العليا واليد الطولى في بلد مستباح.
الرجل الأول م.ع شاب ريفي تقوده الدراسة الجامعية إلى دمشق فيضيع في متاهاتها ويقع كمعظم أبناء جيله في هوى الماركسية والحلم في العدالة. تصل أخبار فشله الدراسي إلى عمه ل.ع المسؤول الكبير والمتنفذ الذي يستعيد في باله سيرَته المشابهة لسيرة ابن أخيه البائس متوهم الثورة والصراع الطبقي. فيحاول «إنقاذه» من أوهامه ويتلو عليه دروساً في الوصولية والواقعية من خلال فكرته عن «الثورة والثروة» وينجحُ بتحويله إلى مخبرٍ يشي بزملائه القدامى، يصعد سلم الانتهازية (أو يهبط) ليصل إلى قاع العفن مُلوثاً ومعطوب الضمير، متورطاً بعلاقاتٍ نفعية ودنيئة إحداها مع الممثلة ناريمان.
مع كل الشخصيات السابقة، سندخلُ في دائرة أشد تعقيداً باحثين معهم عن الصفقة التي سينتهي إليها سيناريو المسلسل المزعوم. وسنجد أنفسنا رفقةَ مجموعة من المفتشين والمحققين، الذين يسهل توظيفهم وابتزازهم ورشوتهم، حيث التلاعب والتجاوز، إتلاف الملفات وإحياؤها، تغييب الحقائق أو فبركتها وإبرازها. كل ذلك يتم وفق آلية لا يمكن ضبطها والوقوف على المسؤول الأول فيها لتعكس هذه الغوغائية والفوضى صورةً شديدة التطابق مع الواقع السوري.
أما المحور الأجمل في الرواية، والخط الأكثر جاذبية وجِدةً فهو في الضربة اللافتة والفذة: استحضار زمن أم كلثوم وتجسيده. بدءاً من الفصل المعنون بـ«كتاب الموسيقى الشرقية والغناء العربي، ونصرة الخديوي إسماعيل للفنون الجميلة، وحياة عبده الحامولي لمؤلفه قسطندي رزق أفندي» من هنا، وربما قبله بقليل، تبدأ المغامرة الأجرأ للكاتب، التي كلفته بلا شك ساعات وساعات من البحث والتنقيب والاستماع وجمع المعلومات ومقاطعتها مع بعضها، ليتمكن بكل يسر ودقة من حشد كل هذه الأخبار عن الست وزمن الست «أم كلثوم».
لم يأتِ فواز حداد بما حصل عليه نتيجة عمليات البحث والنبش ليستعرضه أمامنا، ولم يفرد لنا بضاعته (إذا صح التعبير) ككاتب مجتهد وباحث قدير لنصفق كالقراء التقليديين مُثنين على سعة إطلاع كاتبنا وتمكنه من موضوعه، بل أمسك فواز حداد بذائقتنا وفضولنا، استدرجنا بذكاء إلى رحلة عبر الزمن، رَدنا بمهارة إلى تلك الحقبة فحضرنا مع رشوم حفلة «عبده الحامولي» الرائعة، ثم رافقنا بدايات أم كلثوم، عائلتها وقريتها، لقاءها المفصلي بالشيخ أبي العلا محمد، صعودها، نجاحها، أغنياتها ومجدها وعزها، علاقاتها مع السميعة والملحنين والشعراء والصحافة، مكانتها في العهدَين الملكي والجمهوري، وصلاتها برجال العصرَين ونسائهما، بكل ما في ذلك من تعقيدات وحروب شُنَت من أجلها وضدها، ثم الجانب الأخطر والأكثر حساسية المتعلق بحياتها الشخصية، عشاقها وغرامياتها وأخبار زواجها وطلاقها. ولعل الحامل الأقوى لهذه الفكرة المثيرة كان «رابطة عشاق أم كلثوم»، التي بذريعتها وفضلها تمكن الكاتب من استدعاء ما شاء من مراحل التاريخ وشخصياته، مرةً ليستجوبها، ومرة ليتهمها، ومرة أخرى ليدافع عنها، أو ليتركها تدافع عن نفسها.
لعبة روائية مشغولة بفنية عالية، فمن خلالها كانت لنا وقفات مع الست وأحمد رامي والقصبجي والرئيس جمال عبد الناصر والسادات وغيرهم. فضلاً عن التشويق والدهشة اللتين حققتهما هذه الحيلة الإبداعية للقارئ، فإن الكاتب رسخ في مفاصل عدة من روايته شرط المتعة، إذ أرفق الكثير من الفصول بخلفية موسيقية أدرجها بخفة وبراعة، بتطعيم النص بأغانٍ لأم كلثوم. ولم يكتفِ بالتطعيم السطحي، بل كثيراً ما كانت الأغنيات تحظى بالتحليل والتدقيق، سواء من ناحية الكلمات أو اللحن أو من ناحية الصوت نفسه، خاصة أن أحد أبطالنا (رشوم) مشغول بقضية الصوت وما يكتنزه من إمكانات، وستحظى حفلاتٌ وتسجيلاتٌ بعينها بتدقيق وتحليل يستحقان أن يكونا في كتاب علمي متخصص في الموسيقى.
نشيرُ أيضاً، وإن بشكل سريع، إلى موضوع اللغة في الرواية، من ناحية تعدد مستوياتها وتنوعها تبعاً لتنوع الشخصيات والمواقف. بعض الفصول مكتوبة بلغة مشدودة وأدبية وأنيقة، مقابل فصول أخرى مكتوبة بلغة مقعرة تستفز الركاكة والملل بدون أن تصيبهما، وفصول كتبت بالشامية الدمشقية. ولا يخفى علينا أن كاتباً بهذا الاقتدار إنما يُوظف قدرات اللغة المعجمية والعامية والمتخصصة بما يخدم النص ومبتغاه، خاصة أنها روايةٌ تستل أحداثها من أكثر من بيئة وزمن وعصر.
هل هذا يعني أنها رواية تاريخية؟ لا، أبداً. كمعظم روايات فواز حداد سيصعب علينا التصنيف، لاسيما وأنها رواية يلتقي فيها التاريخي بالواقعي بالفانتازي وحتى الرمزي من خلال شخص الأعمى الذي تأخرنا في ذكره، رغم دوره الجوهري في الأحداث. سنكتشف مع الراوي في الفصول الأخيرة أن الأعمى، الذي رافق الغموضُ حضورَه في الرواية وكان الكاتب الحقيقي للسيناريو، وزود رشوم بالموضوعات الدرامية واقترح عليه دور البطل، هذا الأعمى لم يكن سوى القدر بملامحه وخططه وتدخلاته ومفاجآته.
قد يسعنا القول إن رواية «مرسال الغرام»، على عكس معظم الروايات، لا تبحث عن القارئ ولا تلهث خلفه، وإنما تنتظر قارِئها الباحث عنها، عن نوعها وموضوعها ولغتها، هذا القارئ الذي نصنفه عادةً ضمن هواة النوع، صاحب الذائقة الخاصة الذي يفتش عما يرضي مزاجه. يراهنُ فواز حداد إذن على ذوق هذا القارئ وصبره، على فضوله تجاه التاريخ السياسي والفني وعلى شغفه بالموسيقى. الأمر الذي يجعلها، إضافةً إلى كل ما سبق، رواية يصح فيها القول إنها من المغامرات المهمة في عالم الرواية.