لِمَ لا نتوقّع الأسوأ؟ لو استمر الحال على هذا المنوال من الانكسارات المتوالية، وهي انكسارات تصيب الروح وتعطب الأجساد، وفكّرنا بالمدن موطن الأحياء على أنهم أرواحٌ، لا موطن جثث وجمادات، فكم يا ترى من التشوهات سوف نعاني؟

لنتخيّل المدن العربية في ذلك المستقبل الذي ليس بعيداً، وهو مستقبلٌ غير منظور بتفاصيله حالياً، وإن بدأ التمهيد له قبل أشهر، وأخذت ملامحه تطلّ علينا، وفي سبيله إلى التجسد على نطاق واسع. التخيّل مهمة قد يستطيع الأدب الاضطلاع بها أكثر من الخيال العلمي، الذي يعاني من الشطط في الخيال والعلم، مع أنه يعتمد على بعض الحقائق، ولو كانت واهية أحياناً، وربما لا شيء يثبتها. بينما الخيال الذي هو صنعة الرواية والشعر، المنفتح أكثر على رؤى طائشة، لكن على صلة بالواقع الملموس. ولئلا نتفاءل، فلا جدوى منه.

بوسع ما سيأتي أن يكون مضاداً لتوقعات الخيال مهما حلّق عالياً، العلو الشاهق لا يفيد، فالواقع يتحرّك على الأرض، وليس في الأعالي حيث لا تطاله الأبصار. خاصة وقد بدأت نماذج مما هو مقبلٌ تُعَمّم في سوريا والعراق.

” لنتخيّل المدن العربية في ذلك المستقبل الذي ليس بعيداً”

مدينة “الرقة” اليوم، على سبيل المثال لا الحصر، تعاني من ذلك الذي سينتشر. هل هي جرس إنذار؟ مدينةٌ كئيبة، مهدّدة بالظلام، أناس متعبون، عيون واجفة يشوبها الحذر على الرغم من بهجة العيد. الأهالي يسرعون إلى قضاء حوائجهم والعودة إلى بيوتهم. النساء يمشين في الشوارع منقباتٍ يلبسن الجلباب الفضفاض. عناصر ما يدعى بتنظيم “الدولة الاسلامية” يتجولون حاملين الرشاشات، حفاظاً على الحشمة، قد يقترب أحد المسلحين من امرأةٍ منقبة، وينبهها إلى أن الخمار على وجهها شفاف، وينصحها بألا يكون رقيقاً، لئلا يكشف عن مفاتن وجهها، فتوقع الرجال في معصية النظر إليها.

جرى إبلاغ الأهالي بالممنوعات في بيان من 14 نقطة من خلال تذكيرهم بـ”قواعد دولة الخلافة” التي تحرّم الاتجار والتعاطي بالخمور والمخدرات والدخان وسائر المحرمات، كما على أصحاب جميع المتاجر والمحلات الالتزام بمواعيد الصلاة؛ لا عذر لمن أنذر، العقوبات تتراوح بين الإعدام، والصلب، والجلد العلني، ورجم النساء، وقطع الأيدي والرؤوس. “بحول الله وتوفيقه” تعهّد البيان باطلاع الرعية “على مدى الفرق الواسع الشاسع بين الحكومة العلمانية الجائرة التي صادرت طاقات الناس وكمّمت أفواههم وأهدرت حقوقهم وكرامتهم، وبين إمامة قرشية اتخذت الوحي المنزل منهج حياة”.

المدن الفاضلة.. تتسارع من تكميم الأفواه إلى الحجْر على العقول. ما أعاد الرقة إلى عصر لم تعرفه من قبل بهذه الدموية، ولا بهذا التشدّد. قد يشبه عصوراً أخرى، ومن دون تمييز بين الأزمنة والمدن. تلك عصور استثنائية، لكن من كثرتها يبدو أن لها حصة في تاريخ أصبح يمتد إلى حاضر، يمضي نحو المستقبل غير المنشود، لا تنفع معه شعارات التقدّم والديمقراطية والعلمانية، طالما الارتدادات أصبحت واردة بفعلٍ داخلي أو خارجي.

عُرفت “الرقة” على أنها عاصمة الثقافة السورية، بمهرجاناتها الأدبية والثقافية الصغيرة والمؤثرة، واستضافت الأدباء من البلدان العربية كافة. الرقة التي أعطت سوريا والعرب مثقفاً رائداً، وطبيباً لامعاً، وسياسياً محترماً حتى من خصومه، ومناضلاً في جيش الإنفاذ، ووطنياً لا يضاهى في إنسانيته هو عبد السلام العجيلي، يُعد مفخرة سورية بامتياز.

يشقّ علينا نحن السوريين تصوّر مدينته مستباحة بالظلامية التي طالما تصدّى لها. يتباهى مقاتلو “الدولة الإسلامية” بالرقة مدينةً فاضلةً بعدما أصبحت منضبطة على مشاهد الرؤوس المقطوعة، يعيش أهلوها آمنين على وقع الخوف، متشحين بسواد غمر مدينتهم، لا يرقص في ساحاتها سوى المسلحين الانتحاريين على هزيج أغاني جهادية قبل رقصة الموت.

سوريا لن تنقذ “الرقة”، إن لم تنفذ نفسها.