هل يمكن الفصل بين الفن والسياسة؟ هذا النقاش لم يصل إلى حلٍّ يُرضي المتحاوِرين، ما بات نزاعاً يتجدّد كل فترة من الزمن، فالطموح إلى تنظيف الفن من تدخُّلات السياسة مشروع، مع العلم أن الخلاف يتجاوز براءة هذا الطرح.
منذ وقت مبكر، لم تأبه السينما والمسرح لهذا النقاش، وحقّقت فتوحات في هذا المضمار بالذات، لم تتراجع عنها، واستخدمت السياسة موضوعاً لم تكف عن استثماره بشكل مباشر وغير مباشر، ما أنتج بصريح العبارة سينما سياسية ومسرحاً سياسياً، ومن ثمّ أدباً سياسياً. الحجّة أو المبرّر، هو أن السينما والمسرح يخاطبان جمهور المشاهدين، ويراودهما على الدوام، التحريض على العصيان والثورة، والدعوة إلى مجتمع حر.
للأدب أيضاً جمهور، هذا ليس افتراضاً، ولو كان لا يجتمع في صالة أو قاعة، فالقارئ يقرأ وحده في عزلة، والأدب العظيم والجميل يحرّض على فعل الخير، ولو كان هذا الخير تحت يافطة سياسية.
الأدب، بعد عدّة تجارب، أصبح أكثر وعياً، لم يهتم بالبحث عن جمهور يجنّده في قضايا سياسية، بعدما وعى بقسوة درس عدم الوقوع في مخالب السياسة، فالحقبة السوفياتية، والمرحلة اليسارية في العالم، بأنواعها الاشتراكية والشيوعية، جعلته يُدرك مغبّة اشتغال الأدب كداعية للسياسة، مهما كانت هذه السياسة، إلى حدّ ترسّخت لدى الكتّاب “فوبيا الأيديولوجيات”، لمجرّد ذكر الكاتب ما يمتّ للسياسة بصلة، أو الاشتباه بنواياه، فإذا لم يكن عميلاً للروس، فعميل للأميركان.
” الأهم في موضوع السياسة والفن، عدم تجاهل البشر”
من جانب آخر، كان لمحاذير التزمُّت الثقافي الطهراني المضاد للسياسة المبالغ به، الالتفات إلى الإنسان في أزماته الشخصية على ألّا تكون أسبابها على صلة بالسياسة، وكان من فرط التطرُّف في هذا الاتجاه، خشية تحويل “الإلياذة” إلى عمل سياسي مرفوض بسبب السفن الحربية والحصار والرماح والنبال والسيوف.
الأهم في موضوع السياسة والفن، عدم تجاهل البشر، فهم ليسوا كائنات محض روحية، لا وزن لهم، ففي الواقع لا يعربدون ولا يعشقون بين السحاب، وإنما على الأرض، يواجهون كلّ ما تُتحفهم به الحياة من ظلم وقهر واستعباد، يحيلنا إلى الاستبداد المرئي وغير المرئي، وإذا كان للإنسان أن يتحرّر، فمِن ظلم المجتمع والطغاة والمرض والجوع والجهل، وأن الادب سلاح لا سيما الرواية، ولا مفرّ من زجّه في مختلف جوانب الحياة.
ليست الرواية بريئة ولا نظيفة، إنها ممسوسة بعذابات البشر ومباهجهم، ولا خيارات متاحة، فالسياسة مثلما تتدخّل في حياتنا، فللرواية حق التدخُّل في الحياة، بشرط ألّا تدع السياسة تستغل الأدب، بل أن يستخدم الأدبُ السياسة، ويسبر غورها مثلما يفعل مع الجنس والدين والعواطف والغرام والموت والجمال والبشاعة والحماقة والغباء والجشع… والقائمة طويلة، وهذه كلّها ساحة الرواية، وإذا كان الفن أوّلاً، فلأنه لا غنى عنه، من دونه، لا أدب ولا رواية ولا شعر.
لا يمكن التنصل من السياسة، ففي هيمنتها على البشر، إخضاع لهم، وفي سيطرتها، تحكُّم بمصائرهم، وإلّا لم تصبح رواية أورويل “1984” الأيقونة الفاقعة لعصرٍ حُقن بالشموليات من النازية إلى الفاشية والستالينية، قد تعود ما دام الطغيان يأبى الانزياح عن كاهل البشر، بقدر ما يتفاقم، فالشهية إلى السلطة والتسلُّط لا تعدم الأغبياء والقتلة.
-
المصدر :
- العربي الجديد