يمكن تصور عمل الضمير، على شكل إدارة محكمة أخلاقية في داخلنا، تجري محاكمة الذات، نقف على الحياد، ثمة طرفان، حسب دعاواهما وقوة حججهما، نأخذ جانب أحدهما، على افتراض أنه في وسعنا أن نكون موضوعيين، مؤهلين لتمثيل الطرفين معاً، بينما الذات “ذاتنا” موضوع الحكم.
لا تجري الأمور على هذا المنوال التخيلي، ولو بدا بسيطاً ومنظماً، فالحدود متداخلة، الذات لا تفقد ذاتيتها، وهذا ما يجعل المحاكمة لا تنجو من الهوى، وتكاد تكون مستحيلة. الأقرب تجنب محاكمة الذات، وتصورها أشبه بمحكمة برتراند رسل لمحاكمة جرائم الحرب. استندت محكمة الضمير العالمي، الممثلة بالفيلسوف البريطاني، إلى وثائق ومستندات وشهود دانت التدخل الأميركي في فيتنام، المحكمة أحكامها غير ملزمة، وغير قابلة للتنفيذ، ولا تدعمها دول، لكن، لها القدرة على التأثير في الرأي العام، والقدرة على شن حملات مضادة للحرب، والتحريض على مظاهرات تعم العالم. هذه القوة الخارقة لمحكمة الضمير أوقفتها الدول، أو حدّت من تأثيرها، بتجييرها للمحكمة الجنائية الدولية، ما أبطل الضمير والوثائق والمستندات، وأخضعها لإرادات الدول أصحاب الفيتو.
في الأزمات العالمية، يصيب الضمير هجوع ينذر بالافلاس، فالاستراتيجيات لا تدع مجالاً له، وتتلاعب به تكتيكات السياسيين، وإن لوحوا به في خضم جدالاتهم وبرامحهم الانتخابية، بما يسبغ على تطلعاتهم وانحرافاتهم وانحيازاتهم البراءة والنقاء، ما يحيلنا إلى افتقادهما. السياسيون أشبه بالمشعوذين، يبررون ما لا تبرير له، فيتحول الضمير إلى وسيلة لغايات قذرة.
لا يعمل الضمير بشكل منفرد، ولا باستقلالية، ولا هو شيء قائم بذاته. كما أنه ليس فطرياً، ولا إلهاماً، ولم يولد أحد مزوداً بضمير حي. الضمير على الدوام هو الأكثر تعرضاً للتشويه والالغاء، بالتلطي خلفه منذ نشوء المدنيات، ومحاولات السيطرة عليه، فاحتكرته آلهة الإغريق، وكان مطواعاً لأهوائها وطرائفها، ونزواتها وفجورها، فصبّت عطاياها ونقمتها على البشر. ثم احتكره فقهاء الأديان، فوضع تحت رقابة الكنيسة ومحاكم التفتيش، وفي الإسلام تحت طائلة فتاوى مشايخ السلاطين، واليوم الجهاديين الذي يحملون البندقية بيد والساطور بيد. ما أوحى بأن الأديان لا تعترف بسلطة غير سلطتها، بانتزاعها السيطرة على العالم الجواني للإنسان، ما يشل ضميره عن العمل، وتقوده دونما ناظم عن الصراط المستقيم إلى القيام بما لا يمكن تصوره؛ مؤخراً الذبح لأوهى الأسباب. ومثله الأنظمة الشمولية بأيديولوجياتها المغلقة التي لا تسمح للضمير إلا بالخنوع.
وفي مثال الشموليات، النازية والبلشفية والستالينية، الدليل على ضمير يتميز بمواصفات قاتلة، تبيد البشر بالأسلحة والمنافي ومحاكمات الرضوخ والنكران، ولقد احتاج العالم إلى حرب عالمية ثانية، ليتخلص من النازية والفاشية، وينجو من أعباء ضمير ملتاث بالعنصرية، ففي النازية، الامتياز الأشد وضوحاً وتكلفة، كيف أن شعباً يتمتع بالثقافة والمثابرة، وأبرز من قدم للإنسانية الموسيقا العظيمة والفلسفة العقلانية والعلم النافع، أن ينقاد لرجل مهووس بجنون العظمة، ولكي يغفر العالم للألمان هذه الزلة المميتة، يقال تبريراً لها، إن هتلر قام بتنويمه مغناطيسياً. كذلك روسيا السوفياتية التي قُضي فيها على حرية الفكر قضاء مبرماً، لم تنج من الستالينية المثابرة على التصفيات الدورية، إلا بموت صاحبها، ستالين الذي اختصر الفلسفة الماركسية بكراس من بضع صفحات.
يجري الحديث عن موت الضمير، وهو حديث أجدى من موت التاريخ والمؤلف أو الناقد والقارئ، فسلسلة الميتات انتشرت مع تقليعات ما بعد الحداثة. معضلة الضمير تخص الكاتب والسياسي والمثقف في العالم. إذ من دون ضمير هؤلاء جميعاً، يشاركون القادة ورجال الدولة والمسؤولين الكبار، بتضليل شعوبهم، ما يعود على الجميع بالخسائر الفادحة في الأرواح والأجساد.
لو أنه كان للضمير حضور، لما انحط العقل جراء المطامع والطموحات الأنانية إلى دركٍ يتفوق فيه البشر على الوحوش. غياب الضمير يشهد على انعدام التمييز بين الخير والشر، وتدني المعرفة، واللاإنصاف، واضمحلال العدالة. لذلك، كان الانقياد للأخطاء الكبرى والجرائم الكبرى، ما يميز عصرنا وإنسانيتنا.
-
المصدر :
- العربي الجديد