المفروغ منه، ألا غنى للأدب عن الحرية، بينما يمكن للحرية الاستغناء عن الأدب، فهي طليقة لا حاجة لها به، ترفرف عالياً في سماء مفتوحة، في حين أن الأدب كتابات بمعنى وبلا معنى، تؤدي أو لا تؤدي إلى شيء ملموس. الواقع يقول العكس؛ الحرية ليست طليقة، مهما حلقت فهي مرتبطة بالناس، تكتسب قيمتها منهم، أما الأدب فهو التعبير عن الإنسان، وحده الأجدر أن يكون صوت البشر؟

تحتاج الحرية إلى بلاغة الأدب للدفاع عنها وحمايتها والتأكيد على ضرورتها، ولا فضل للأدب في الذود عنها، فهو يدافع عن كيانه، ولو كان الإنسان، هو الكائن المستفيد، ربما الوحيد منها، لامتلاكه الوعي بها، وفي انعكاسها على الأدب، انعكاس على البشر.

إن فقدان الحرية، مثلما يهدّد وجود الإنسان، يهدّد الأدب، والمقصود الأدب الحقيقي. أما ما يشبهه، فادعاءات، ولا يزيد عن خربشات، ولو كان هناك من يحتفي به، فالعالم يحتفي أيضاً بالاستبداد ورقباء الأدب ومخبريه.

” مهما أطلق الروائي لشخصياته العنان، لا يستطيع التحكم بها”

يعدّ جان بول سارتر أبرز من ألحّ على الحرية الشخصية للكاتب في العصر الحديث، على هديه صنّف الأدباء، فأنكر في إحدى مداخلاته، لقب الفنان على فرانسوا مورياك صاحب الرائعة الروائية “تيريز ديكيرو”، لأنه يكتب منساقاً إلى إيمانه الديني، ولا يدع شخوصه تنطلق من إسار كاثوليكيته. فهو ليس حراً، تتحكم به قدرية صارمة، لا تنجو منها شخصيات رواياته.

حسب سارتر، تسلّطُ مورياك ينفي أساس حرية الخلق الفني، وتؤدّي هيمنته المطلقة على عالمه الروائي لتحويله إلى سجن، وأبطاله الى سجناء، ما دام أول ما يفعله هو انتزاع حريتهم.

من جانب آخر، إذا كان مورياك محكوماً بكاثوليكيته، فسارتر محكوم بالحرية، يقسر شخوص رواياته ومسرحياته على حرية ليسوا مهيئين لها، ولا قادرين عليها، ما سوف يصدمهم في عالم بلا حرية، ويحيلها إلى مأساة. لذلك كان قدر شخصياته الإخفاق بما يعادل الانتحار. فالحرية ليست منحة اعتباطية ولا عشوائية من الروائي لشخصياته.

مهما أطلق الروائي لشخصياته العنان، لا يستطيع التحكم بها، كيف يمنحها الحرية بينما حريته مقيدة ومحدودة، هو أيضاً لا يستطيع تجاوز جبرية السلطة والمجتمع، ولا بوسعه اجتراح مساحة حرة، إن لم يأخذ بالحسبان سطوة الواقع، هذه معركته الفعلية، إلا إذا تجنّبها، ورسم مصائر شخصياته حسبما تسعفه رؤيته الدينية أو الدنيوية، وربما الرومانسية أو النضالية… بما فيها من قصور وتكلف.

إن نجاح أي خيار لا يتم إلا بقدرة الروائي على المجابهة، مع أن الصراع مع الواقع، لا يدور في مناخ حرّ. البشر أنفسهم يعرفون أنهم مقيّدون في قراراتهم المصيرية، وليسوا أحراراً، طالما أنهم لم يقطعوا مع انتماءاتهم وماضيهم وأمراضهم وأغلالهم المتوارثة.

تتجلى العظمة الإنسانية، بالإيمان بقدرة البشر على التغيير، حتى في حال فشلهم. بالتالي ليست الرواية إلا محاولات في الحرية.