لو أن أيديولوجيّي الأحزاب الشيوعية تعرّضوا لمحكمة الضمير، لما آل بهم الحال إلى الاستهانة بالبشر، واستدراجهم إلى المحاكمات الملفقة، وقتلهم بالجملة، وإرسال الملايين إلى المنافي، وإنْ لمجرد الاشتباه بهم.

لا يتطلب الإيمان بأية فكرة عظيمة أن يكون البصر حاداً، ولا البصيرة ثاقبة. العميان يعرفون الطريق الصحيح باللمس. كما أن الفكرة العظيمة نفسها، قد تنقلب إلى ضدها إن وقعت بين براثن طائفة من الموتورين، سواء كانوا من علمانيي أو ليبراليي أو قوميي أو متأسلمي هذه الأيام المتقلبة، رغم أنهم أصحاب نظر بعيد، لكن تقاس مسافاته، بما يقربهم إلى مآربهم.

اليوم تعود الأيديولوجيات بلبوس آخر، هو الأكثر إسفافاً وفجاجة، لتثبت أنها على قيد الحياة، ولتصدر أحكاماً بالموت على ربيع ازدهر خلال أيام، واحتاج إلى دبابات ومدافع وصواريخ للقضاء عليه.

هذا الصنف من المثقفين، الصاعد الآن مع السلطات الصاعدة، مهما طال به الزمن، آيل إلى الانقراض. “داعش” وأشباهه قدّموا هدية لا يستهان بها إلى الأنظمة، ومعه مثقفون وجدوا في قطع الرؤوس خشبة إنقاذ لهم من مواقفهم المائعة، لئلا تفضحهم. فهم طالما تغنّوا بالثورات العالمية، الفرنسية والروسية والإسبانية.. وجعلوا قدوتهم ثوّار أميركا اللاتينية، وتماهوا مع غيفارا، ثم بنوا سمعتهم على التشهير بالفساد، غير أن الربيع فاجأهم واضطرهم إلى اكتشاف أن طائفيتهم ينبغي أن تكون مضادة للثورة، رغم أن مطالب المتظاهرين محقة، والأنظمة مدانة. هذا ما جرى التوافق عليه، وتلك كانت الموضة الشائعة طوال الشهور الأولى للثورة.

“هذا الصنف من المثقفين، مهما طال به الزمن، آيل إلى الانقراض”

غير أنهم سيترفعون عن النظام والثورة. تلك أصول اللعبة؛ ألا يتخذوا جانب النظام ولا الثورة، بزعم اتخاذ موقف أخلاقي. فتاجروا بالضحايا من دون تعيين، وتباكوا على الدمار، وأعموا عيونهم عن المجرم الحقيقي. طالما وجدوا من يتهمونه وهو “داعش” وإخوته. وانهالوا بالنقد والسخرية على المعارضة، وكانت فريسةً في محلها.

كانوا أسوأ خصوم لذلك الذي كان ربيعاً. يعتقدون أنهم إذا أقنعوا الذين حولهم، فهم على صواب. لكنهم يكذبون، يخدعونهم ويخدعون أنفسهم. واتهام الربيع بأنه كان مؤامرة وهابية أصولية أميركية داعشية طالما حذروا منها، واتهام الضحايا بأنهم ضحّوا بأنفسهم في الزمان الخطأ، وأن ثورتهم كانت مدفوعة الثمن.. هذا يحتاج إلى إخفاء تاريخ طويل من القهر والقمع والعسف، ومعه أسباب الثورة والشهورالأولى منها، إلى أن بدأت الدولة الحكيمة باستعمال الأسلحة الثقيلة واستدرجت إليها أعداءها من الإسلاميين. لم تحاربهم، بل قضت على شباب التنسيقيات والأطباء والناشطين السلميين ومتطوعي الإغاثة.

أشياء كثيرة مرشّحة للتماوت في جحيم الربيع العربي القارس. فالربيع لم يكن مؤامرة، ولا كانت نتائجه سلبية كلها. أحد دروسها أن الثقافة أفكار تهوم في الأذهان؛ قد تضلّ طريقها أو تتعثر، لكنها تبلغ هدفها وتجد طريقها إلى الحقيقة أو الكذب، مثلما الجريمة فكرة، ريثما تجد طريقها إلى التنفيذ.