أسوأ ما يمكن أن يحدث للرواية، الترويج لها على أنها مادة للتسلية. هذا النزوع نحو وضعها في خانة الطرائف والنوادر سيُحبط الكثير من الروائيين، والقرّاء أيضاً، ويضع الجهد الروائي على مدار تاريخه في مهاوي العبث.
فإذا كان للرواية أن تُرفّه عن النفس، فلأنها لا تنفيه، لكنه ليس هدفها. ومن الطرافة نفسها، أن يصبح المحكّ لجودتها، وربما لروعتها، غير أن اقتصارها عليه، تسخيف لها، وتقزيم لعالم الرواية الهائل، المتنوّع الغايات والأهداف، إن لم نضف إليه الأعباء الخفيّة من الغوامض المُلقاة على عاتقه، والتي يجهد الروائيون في كشفها.
في العقد الأخير مع انتشار قراءة الرواية، أصبح الإصرار على عنصر التسلية من لوازم مديح الرواية، بعدما وُجّهت إليها أصابع الاتهام، ففي حال كانت جادّة، فهي عابسة، وإذا تعرّضت إلى البؤس، فهي نكِدة، وإذا تطرّقت الى السياسة، فهي متأدلجة.
بات ثمّة اشتراطات اعتباطية تُحدّد رواجها، كألا تجلب اليأس، أو يُداخلها الشؤم… وطبعاً ألاّ يكون أحد ابطالها شيوعياً يلغو بآرائه، ولا تتعرّض لحالة اغتيال سياسي، أو تتعاطف مع شخص يحمل مبادئ مخالفة، ما يستجرّ إلى اعتبار الرواية ممّلة، كئيبة، سقيمة.
وعلى هذا الأساس، لا يجوز تحميل أبطال الروايات شبهة جهادية، أو انتحارية. كذلك الخطر من الاشتراكية ما زال قائماً، مع أنه مضى عهدها، وأصبحت تقليعة قديمةً ذهبت بانهيار الاتحاد السوفييتي، لكنها غير مستحسنة في الرواية، وكأن العدالة الاجتماعية من اختراع سيئ الذكر ستالين.
“اشتراطات اعتباطية تُحدّد رواجها، كألا تجلب اليأس، أو يُداخلها الشؤم”
هذه الاتهامات المتحجّرة وقصيرة النظر، ترفع من شأن رواية التسالي، التي تبعث البهجة والحبور، وكأنّ هذه الرواية تحتكر وحدها المرح، مع أن تاريخ الأدب حافل بروايات صنعت أمجادَها روحُها الكوميدية وخفّة ظلّها، كرواية “دون كيشوت” لـ ثربانتس، و”غارغنتوا غارغنتول” لـ رابلييه، “تريسترام شاندي” لـ لورانس ستيرن، و”أوراق بيكويك” لـ ديكنز… وغيرها كثير، وجميعها تتميّز بالسحر والجاذبية وتُحرّض على الضحك، ليس من نوع الضحك الهادف، على نسق الأدب الهادف والموجه.
تتميّز الروايات العظيمة بالمتعة؛ متعة العقل والروح، وهو تعبيرٌ لا يطرد التسلية والترفيه، كهامش قد يحصل أو لا يحصل. لكنه بالضرورة يشمل البهجة المرتبطة بالعمق، والتعرّف إلى العالم والذات والاخر، وملامح العصر، والبحث عن الحقيقة… المفترض ألا تخلو منها رواية. فالمتعة هي الصدى لما تُطلقه من إشعاع، ومقياس تفاعلنا معها. ودائماً ما أسهمت المتعة باستمرارية الأدب في عالمنا، وكانت الحامل المثير للرواية من عصر إلى عصر.
تتحقّق المتعة بقدرة الكاتب على إيجاد صلة بين الرواية والقارئ، والنجاح في اختلاق مشترك ما بينهما؛ قد تكون طرحاً لإشكالية تلفت اهتمام قارئ، فتصبح إشكاليته الخاصة، يعنيه معرفة مآلاتها، ما يحفّزه على متابعة مصائرها، وأيضاً ما أصبح مصيره. فالمتعة هي في التواصل والتعلم والاكتشاف والاطّلاع على حياة نحن جزء منها، وما الروايات إلا محاولات ممتعة في الفهم عبر الزمن.
-
المصدر :
- العربي الجديد