إذا كُنّا لا نلوم المجنون على اعتقاده أنّه نابليون بونابرت أو دراكولا، فذلك لأنه لا يعقل ما يدّعيه، وإن ظنَّ عن قناعة مطلقة أنه أحدهما. بينما في عالم العقلاء، أو من يدّعون العقل، وربما الإيمان أيضاً، يحقُّ لنا أن نتوقّع ممّن يطلق أحكاماً قاطعة على سلوك إجرامي أو شريف، أن يُقدّم مبرّرات لقوله، قويّةً كانت أو ضعيفة، مقنعة أو غير مقنعة؛ فالإنسان مسؤول عمّا يُصدره من أحكام، وما يعتقد أنه صواب أو خطأ، خاصّةً عندما يتحيّز إلى موقف سياسي، أو نظام حكم، أو شأن اجتماعي، ويبلغ في دفاعه عنه الحدود القصوى، ما يؤدّي إلى البراءة، أو الإدانة، وإذا كان في قفص الاتهام، فإيقاع العقوبة بالسجن، وربما الموت.
المشكلة في التحيُّز في حال تعدّانا وشملت نتائجه مجموعات كبيرة من البشر؛ فالدائرة عندما تتّسع، قد تجمعنا أو تفصلنا عن غيرنا، خاصّةً إذا أدّى إلى قرار يؤثّر فيهم سلباً. هل يا ترى راعَينا في تحيّزنا ألّا يكون هشّاً، أو مفتعلاً وربما كيدياً… بل مبرَّراً بقوّة؟
تحمل كلمة التحيُّز قيمةً سلبية؛ إذ يُخشى ممّا تستجرُّه الغوغائية والعمى والغباء من عواقب يصعب تلافيها. ما الضمانة في أن يكون التحيُّز في نطاق الخير لا الشر، ما دامت الحقائق نفسها متحوّلة ومتغيّرة، وتختلف من مجتمع لآخر، ومكان لآخر؟ ثمّة عصور جرّمت، ما أصبح مسموحاً به وعادياً، وربما محبّذاً، بل اعتُبر من كان التحيُّز ضدهم شهداءَ، ما أثبت أنَّ من أدانوهم في الماضي تحيّزوا ضد المستقبل.
” نعجز عن تفسيرها لأنها لا تعقل الصواب من فرط عماها”
يتحيّز المرء مدفوعاً بمبرّرات مقنعة، أو يعتقد أنها كذلك، ولا يراوده الشك فيها؛ تتبدّى أخطارها خاصة في زمن القلاقل والتقلُّبات والانهيارات، لما يرافقها من حماسة وتسرُّع وغلو، ما يطيح بالمُخالف والمختلف، كذلك في النزاعات ذات اللبوس الديني، ما يحيل الخلافات إلى الإيمان والكفر، والذهاب في الدفاع عنها، ليس إلى تلك العداوات التقليدية، بل لإيجاد ذرائع لارتكاب أعمال إبادة. لسنا بصدد الاعتقاد الديني بالمطلق، وإن كنّا نلمّح إليه، التشدُّد فيه لا يخفي عواقبه، تبدو من خلاله مجازر القتلة وكأنهم يؤدّون واجباً دينياً، يذهب بهم إلى الجنّة، بينما هو يدفعهم إلى الجحيم.
يستقي التحيّز مواقفه أيضاً من المظلوميات، تبرّرها المخاوف، ويبلغ ردّ الفعل عليها بما يفوقها أحياناً رغم مضي الزمن، ولا يشفي الغليل منها إلّا القتل الجماعي، وهي لا تعود إلى الدين، وإنما إلى سلطة تقاليد في الانتقام مغرقة في الرثاثة، وذلك بالانقلاب ضد تقاليد ترسّخت بالفضائل، ونبذ خطايا أثبتت أنها جرائم.
إنّ الاعتقاد بأفضلية شخص على شخص، أو جماعة على جماعة، لا يخفي مثالبه في النظر إلى الذين يعارضوننا الرأي، على أنهم أعداء ليسوا بشراً، بل أشياء محتَقرة، لا تستحق الحياة، يصحّ قمعهم وإذلالهم، وكسر كرامتهم، والإيقاع في أذهانهم أنهم لا شيء، لا يستحقّون رأفة ولا رحمة، فهم لا أكثر من قمامة، ويُستحسَن القضاء عليهم، بينما ليس هناك اعتقاد يبيح القتل، ولا احتقار الإنسان، أو إذلاله… وهو ليس مجرّد رأي، إنه اعتقاد إنساني بالدرجة الأولى، التمسُّك به فضيلة، والتنصُّل منه جريمة.
في سنوات السلام، كمثال لا يُستهان به، تُبرّر الأنظمة دعاواها بالاستقرار، ما يسوّغ الإجراءات القمعية كأمر لازم وضروري، فلا يحق الاحتجاج، ولا المطالبة برفع الظلم، ولو كان ضد الفساد، ويمتنع البحث في أسبابه، ما دام أنّه ركيزة الأمان، ما يمكن مقارنته بالإبادة الجماعية لحرية الرأي.
في التحيُّز، قد يعتور الغموض تواري الإرادة العاقلة المسؤولة لتُخلي مكانها للإرادة المتطرّفة الهوجاء، وإذا كنّا نعجز عن تفسيرها، فلأنها في أحيان كثيرة، لا تعقل الصواب من فرط عماها، ويصح القول؛ إن للحقد أحياناً مبرّراته الشائنة التي لا تحيط بها المعرفة الإنسانية من شدة غلوها ووحشيتها.
-
المصدر :
- العربي الجديد