“الجمال سينقذ العالم” جملة شائعة تعبّر عن قوة تأثير الفن بشكل عام، وقدرته على تخليص العالم مما يتأتى عليه من آلام. المقصود بهذه العبارة، يزيد عن تجميل العالم، وتشذيب عيوبه إلى ما لحقه من تشوّهات، فالحروب تجتاح العالم، وتنتهك فترات السلام القصيرة، في عالم لم يعرف هدنات طويلة غير آمنة، وحتى الآمنة منها، اخترقتها فترات كساد وفقر وجوع في حياة تحفل بالصراعات والنزاعات والأوبئة.
من أين جاء هذا التفاؤل، حتى أصبح هناك شبه يقين من قدرة الجمال؟ ربما من الروائي دستويفسكي، فقد قال مرة: “سيتم إنقاذ العالم من خلال الجمال”. كثيرون يماثلونه الثقة بالجمال المنقذ، ومنهم من هو على إيمان به. كما خالفه كثيرون منهم كتّاب وفنانون؛ لديهم وجهة نظر قوية أيضاً، فالثقافة بكامل حمولتها من فكر وأدب، لم تضع حدًا للفساد الضارب في العالم، حتى يقضي الفن عليه، أو ينقذه الجمال. فالفن لا يجعل الشخص أفضل، وسيرة الفنانين مثال جيد على أنهم ليسوا مؤهلين لتمثيل براءة الجمال، ولو كانوا يصنعونه، فهم لا يزيدون عن الأدباء في هذا المجال، ولا يختلفون عنهم، والأجدى إنقاذ أنفسهم.
لن يصيبنا الفنانون بصدمة بسبب مباذلهم الشخصية، طالما الصدمة لن تتخلف بعدما احترفوا تطهير الفن من الجمال، وكأن التراث الهائل للفنون استهلكه، ولم يعد له مكان في عالم يوالي سقوطه في مستنقعات التردي. وفي حال اعتقد العالم أنه استهلك الجمال، وصفحته انطوت في الماضي، وباتت لوحات دافنشي ورافايللو وميكلانجلو، ورمبرانت وفيرمير، مأواها المتاحف، فالأمر السيئ أنها لم تعد خاضعة للبيع والشراء، مع أنها صالحة للاستثمار. كذلك فن القرون السابقة، لم يعد يمثل قيمة مادية ما دامت محتجزة لمحبي الفن. ما استدعى أيضاً تجاوز بيكاسو والتكعيبيين والسرياليين، بعدما مضى على هذه المدارس نحو قرن من الزمن، والاتجاه نحو المستحدث، فمنذ عقود يتزايد طوفان الغريب من الصور والأشكال والألوان، تنتج اليوم لتستهلك اليوم، لا تفلح إلا في تضخيم حجم المبيعات في أسواق تفرم كل شيء.
سعت ما بعد الحداثة إلى تدمير سمعة المتعارف بأنه فن عظيم
محت انحرافات ما بعد الحداثة العمل الفني، فظهر الشره إلى ما يدعى بفن اللاشيء، وسعت ما بعد الحداثة إلى تدمير سمعة اللوحات المتعارف على أنها الفن العظيم، والسخرية منها بأساليب استفزازية، مثل الشاربين اللذين رسمهما مارسيل دوشامب علي وجه الموناليزا، ومرحاض اعتبر لوحة لمجرد وضعه في صالة عرض. بوسعنا القول إن الفنانين انصرفوا إلى تسخيفه، وأخذ الفن التافه في احتلال ركن على جدران المتاحف، ويُحتفى به نقدياً، وترتفع أسعاره بشكل فلكي في المزادات الفنية، ما أوجد سوقًا نشطة له، أخضعته للعرض والطلب، والأهم للدعاية والادعاء.
لم يعد الجمال كفئاً لهذا العصر، بعدما جرى اكتشاف لغز البيع والشراء والتجارة والمجتمع الاستهلاكي… تفكيك هذا اللغز أسهم في صناعته بالدرجة الأولى تجار الفن وباعة اللوحات وصالات الفن والمزادات. باتت الحداثة تملي على الفنانين منطقاً يقول إن ناتج عملهم سلعة للبيع مثل أي شيء آخر، محك قيمتها القدرة على تسويقها، والذي يبيع ليس هو الفن، ولا تقييمات النقاد، ولا موهبة الفنان أو حرفيته، بل نجوميته، والأمثلة أكثر من أن تحصى؛ آندي وارهول وسي تومبلي ودافيد هوكني… ولئلا نتكلم في الهواء بيعت لوحة مؤخرًا للرسام تومبلي بسبعين مليون دولار لا تزيد برأي الكثيرين عن “شخبرة”. بينما اعتبرت اختصارًا جماليًا عميقًا على مستوى تجريد الجمال من طابعه النفعي.
مع هذا يمكن اعتبار تومبلي ظاهرة خطيرة، لم يكن فنان تقليعات، فقد قام برسم أحد السقوف الكبيرة في متحف اللوفر، ليكون بذلك أول فنان يقوم برسمها بعد جورج براك في الخمسينيات. وكأنه بتحوّله إلى رسم لوحات تبدو وكأنها خطت بقلم الرصاص، وتحصد الملايين انتصارًا للامعنى.
تأبين الجمال وارد، لم يعد ينقذ العالم، طالما التجارة تعمل على تخريبه، رغم أن الكثيرين يعتقدون أنه غير قابل للزوال، وتأثيره عظيم في البشر، يبعث الأمل والحب والسعادة، إنه بهجة للعين والروح… لكن بعدما انصرف عنه الفن، لم تعد لديه القدرة على إنقاذ العالم، الحقيقة هي التي تنقذه.
-
المصدر :
- العربي الجديد