في السنوات الأخيرة، أصبحت الرواية في العالم العربي فناً شعبياً، بالمقارنة مع القرن الفائت، عندما كانت مقتصرة على عشاق مزمنين أوفياء لها، أغلبهم من الكتّاب، حتى قيل إنهم يقرأون لبعضهم بعضاً، لولاهم لكسد الأدب. شكّلت الرواية للقراء الجانب الأكثر إثارة في حياة كانت تعاني من الركود، أثارتها بأسئلة عن الحياة والحب والمسؤولية والضمير.

تسللت الرواية إلى الشباب، وازدادت شعبيتها تحت تأثير موضوعات يومية شدتهم إليها. فالرواية لم تعد حبيسة المثاليات الأخلاقية، والبطولات الخيالية، والرومانسيات العاطفية. بالوسع القول إنها نزلت إلى الشارع والأزقة الضيقة، والمناطق المهمّشة، وذهبت إلى الواقع والخيال معاً.

وجاء وقت توقفت عند الجسد، حتى خال الكثيرون أنها لن تغادر الفراش، فالإقبال على الجنس تحت تأثير الرواية الغربية، بدا وكأنه فاق الحدود، وبات أشبه بكسر الحواجز في الموضوعات المحرّمة، وقلّما خلت رواية من هذه المنافسة، لا سيما عند الكتّاب الذين وجدوا في الجسد مادة للإبداع، آزرتها كتابات نسائية، كانت دليلاً على أنهن لسن أقل من الرجال جرأة.

“بالوسع القول إن الرواية نزلت إلى الشارع والأزقة الضيقة، وذهبت إلى الواقع والخيال معاً “

كان للسمعة القوية للرواية في العالم، عامل ملحوظ في انتشارها، ففي الأخبار الأدبية بات هناك حضور دائم للرواية ولكتّابها، فأصبح نجيب محفوظ، المعروف وقتها، صاحب شهرة دائمة بثلاثيته القاهرية، زادتها “أولاد حارتنا” وما أصابها من منع، ثم جائزة نوبل التي استحقها بكل جدارة، وإن كان لأسباب سياسية طارئة.

ولم يعد القارئ المخلص يكتفي ببلزاك ودستويفسكي وتولستوي وتشيخوف. طاولت اهتماماته الكتاب الحاليين، افتتحها سلمان رشدي بروايته “الآيات الشيطانية”، والفتوى الشهيرة بقتله، وتعرّف إلى الكتّاب اليابانيين وأميركا اللاتينية وعلى رأسهم ماركيز والغربيين ساراماغو وكويتزي وأوستر.

مع كل موسم أدبي تظهر مئات الأسماء على خارطة الرواية، وغيرها في الانتظار؛ قوائم تبدو وكأنها بلا نهاية، حاولت الترجمة مجاراتها، بالقياس إلى عهود سبقت كانت الترجمة تعنى بالكلاسيكيات التي أصابها الحظ الأوفر. بينما اليوم بعدما ارتفع منسوب الترجمة، ارتفع أيضاً منسوب التسرع وعدم الدقة سعياً لكسب سوق القراءة.

ونظراً لازدهار الرواية، أصبح بعض الشعراء من كتّابها. كذلك صحافيون اكتشفوا مواهبهم من قبل في الشعر، حاولوا استثمارها في الرواية. وأيضاً ظهور روائيات أثبتن حضوراً سريعاً، ومنحن الرواية نكهة أنثوية كانت تفتقد إليها.

أفسح الشعر ساحة الأدب للرواية. وفي الواقع كان الشعر يعاني من التراجع في القراءة، وكما يبدو من الإلهام أيضاً، حتى أن دور النشر صارت تتهرب من إصداره إلا بكميات محدودة، حفاظاً على نوع أدبي لا يندثر، إذ ينهل من الحياة، لا من تقليعات الأدب، وحسابات ما يدره من مال. لكن ليس الشعراء وحدهم، بل ثمة قراء، لا يتصوّرون الحياة من دونه، وإن كانوا يستطيعون العيش على أمجاده، لكنهم بحاجة إليه في هذا الواقع المؤلم والمتردي، إذ لا ينفصل عن الروح والحياة.