في انتظار الباصات، حشود من الرجال والنساء والأطفال والشبان وكبار السن، ومنهم معوقون ومرضى، يحملون متاعهم القليل. ما ارتدوه من ملابس، لا يحميهم من البرد الصقيعي، الوجوه يخيّم عليها القهر، بعضهم يذرفون الدموع، ويلقون النظرات الأخيرة إلى معالم الأبنية المدمَّرة، سيغادرونها إلى مصير يجهلونه.
كل ما في هذا المشهد يُشعرك بقسوة الاستبداد وجبروت الاحتلال، هؤلاء يرحلون عن مدينتهم مرغمين، بعد معاناة سنوات من حرب طاحنة، شهدوا الموت يومياً، وتحملوا شظف العيش وفقدان أساسيات الحياة، وكابدوا الجوع والأمراض من أجل البقاء على أرضهم.

في “بروباغندا” الأكاذيب، ما وصلت إليه المأساة الحلبية، كان نهاية لا بد منها، فالنظام حمل على عاتقه القضاء على الإرهاب الذي يعاني منه العالم بأسره، وهؤلاء المدنيون العزّل إرهابيون. هذا ما أثبته النظام، وأفتت به إيران، وساعدت روسيا على تحويل المدن إلى خراب. بينما على الأرض، أُسند القتل إلى الجنود والشبيحة، وصناديد الحزب الإلهي ومليشيات مرتزقة من جنسيات متنوعة.

على الرغم من الاتفاق على تسهيل خروج الأهالي برعاية الصليب الأحمر، بضمانة روسية، جرى اعتراض الباصات، أنزلوا منها الشبان، مدّدوهم على الأرض، وتشفّوا بإهانتهم، بالدعس عليهم بالأقدام، أعقبها إعدامات ميدانية… بإشراف إيراني.

” لا عيش إلا لمن يرضى بالعيش حسب مقاييس سياسات نظام غاشم”

هذا المشهد جزء من مشهد أكبر وأوسع، قد يبدو مقتطَعاً من فيلم سينمائي عن اجتياح الجيش النازي بلدان شرق أوروبا واستباحته للأهالي. المشهد أيضاً سوريالي على نحو ما، ودراما غير قابلة للتصديق، إذ كيف لهؤلاء النسوة والأطفال أن يكونوا إرهابيين؟ ولماذا يُرحّلون من بيوتهم جناية عمرهم؟ ولماذا إجلاؤهم عن أحيائهم، التي شهدت أفراحهم وأتراحهم، وتحت ترابها قبور أعزّائهم؟

المؤلم أنه حقيقي، يجري تحت أنظار العالم، وتنقله وسائل الإعلام، والأكثر إيلاما ومفارقة، مسارعة أطراف في حلب الأخرى إلى الاحتفال بهزيمة حلب المحاصرة برفع شارات النصر، رافقها احتفالات في قلب إيران. أما في الضاحية الجنوبية ببيروت، فجرى توزيع الحلوى ابتهاجاً بسقوط حلب. في الوقت نفسه، سارع أوفياء للنظام إلى الدفاع عن الاحتفالات بأنها احتفاء بنهاية الحرب، ألا يحق لهم الشعور بالفرح؟

الحرب لم تنته، وحلب سواء هُزمت أو لم تهزم، فـ”النصر” كان مصطنعاً، وإن تحقق حسب المنطق الدموي الجائر للنظام: على المدنيين أن يدفعوا الثمن، لأنهم طالبوا بالحرية والكرامة، وطُردوا شرّ طردة، إذ لم يعد يحق لهم العيش في سورية الشعب المتجانس، سورية الأسد.

في حلب، الحقيقة صارخة، لا عيش إلا لمن يرضى بالعيش حسب مقاييس سياسات نظام غاشم. سياسة العقاب ممنهجة، الحصار والتجويع والطرد، إن لم يكن الموت. إذا لم تصفع هذه الحقيقة الطرف الآخر في سورية فلأنهم اختاروا العمى والرضوخ معاً. إذ لا أكذوبة قادرة على نفي الظلم، أو جائحة القتل المستمرة، أو تهجير الملايين. الجرائم لن تتوقف، وسورية لن تغفر.

اقــرأ أيضاً