عالم الثقافة لم يُصبه العطب من استشراء الشللية، ولا سيما أن بعض الشلل كانت تجمعات ثقافية صغيرة، صنعت في بعض الفترات تاريخ الأدب والفن، وكانت وراء ظهور وترسيخ مدارس وتيارات أدبية كالرومانسية والطبيعية والواقعية والوجودية، ومثلها الفنية كالطبيعية والتكعيبية والوحشية والسريالية والتجريدية… كان مقرّها الصالونات والجامعات والمقاهي، يجتمعون ويتبادلون الآراء ويصدّرون البيانات، يبدأ بالرقم واحد كإعلان عن انقلابهم، وأحياناً بإلغاء ما سبقهم من أدب أو فن، وبدء تاريخ جديد.
وما حدث فعلاً، أن التيارات المترهلة التي بدت في آخر أيامها لم تمت، وما أدى بدوره إلى بثّ الحماسة في اتجاه كان في طريقه إلى الوجود، فأضيف بذلك تيار جديد أسهم في تشكيل خريطة تعكس ما يمور في داخل المجتمع من تحولات وصراعات وصرعات، ورغبة في التحلل من القيود، وتوق جامح إلى التغيير.
في بلادنا ظهرت الشللية أيضاً، ولعبت أدواراً رائدة، واعتنت بالأدب والفن، وفي ما بعد بالنمائم على حسابهما، لم تنج منها الشلل اليسارية في الأدب، والمستقبلية في الفن، إلى أن تحللت وذرتها رياح السياسة وتمزقاتها. وتركت وراءها نمطاً من الشللية، خلّف مراكز قوى أدبية.
” الشِلل بعدما تسيّست وتأدلجت، أصبحت معنية بالرفع والخفض”
انحطت الشللية كانعكاس لانحطاط السياسة، وأصبحت تسير في ركاب السلطة، تستظل بطغيانها وتستجدي حمايتها. فالقمع الذي أنتج اتحادات للكتّاب، أنتج شللاً على شاكلته، متغطرسة ومتماسكة، انتهازية ووصولية. نبذت أدباء اختاروا النأي بأنفسهم بعيداً عنها، ولو إلى مهاوي النسيان.
فالشِلل بعدما تسيّست وتأدلجت، أصبحت معنية بالرفع والخفض، ولم تكن أكثر من تجمّعات طفيلية مغلقة تتعيّش على اليسار الرديء والنضال الشعاراتي، وتماهت مع قومجيات الأنظمة ووطنياتها، وجعجعة الممانعة والمقاومة، والانفتاح على فتات المنافع الدنيا والعظمى. وكانت تبشيراً مبكراً لظاهرة التشبيح الثقافي التي ستنشط في الأزمات.
أدى واقع تنافس الشلل إلى توجّس الواحدة من الأخرى، واندلاع المعارك بينها، يُشعلها تقاسم المناصب والمنافع في الجرائد والمجلات، لا صلة لها بالأدب، وإن اتخذت طابعاً أدبياً في حرب تبدو أنها تُخاض دفاعاً عن حرية التعبير، أو الانتصار لتيار أدبي مدجن أو غير مدجن، مع التجديد أو ضد التجديد… والكثير من هذا القبيل. ما يكشفها على الدوام، أن هؤلاء الذين لا يؤتمنون على شيء ذي قيمة، لن يؤتمنوا على أمر يحتاج الوفاء به إلى مجاهدة النفس قبل الآخرين، ومغالبة النوازع الانتهازية، بينما هي المطلوبة.
أثبتت الشللية وزنها، ورسخت مكانتها بإسهامها الكثيف في حضور المهرجانات والندوات والمؤتمرات بالواسطة، أو حسب التقاص في المنافع. أما في المجال الإبداعي، فإنتاجهم المتواضع لم ينقصه التهويل ولا المديح المأجور، ما أملى عليهم إصدار بعض الكتب بين وقت وآخر، ومهما كان الإسهام تافهاً، يرافقه الزعيق، مطمئنين إلى أن أسماءهم مع الزمن وتكاثر المريدين والمطبلين والمزمرين ستضعهم فوق النقد، ولن يجوز عليهم إلا الثناء، فجازت عليهم اللعنة.
-
المصدر :
- العربي الجديد