ليس من المغالاة ردُّ استمرارية الرواية في العالم إلى حيوية برهنت عليها من خلال صعودها، والتصدّي إلى كلّ ما من شأنه أن يَعني البشر، وما يطرأ على الأوضاع الإنسانية من متغيّرات. لم تستنكف الرواية عن أكبر القضايا إلى أصغرها شأناً، وكلّ ما يخصّ الانسان؛ الحُبّ، الملل، التفاهة، العنف، الشرّ، الإيمان، النكران، الألم، العدم، العبث، الجنس… فحصدت صدىً مرموقاً في جميع المجتمعات، وأصبح لقراءة الرواية نصيبٌ في حياتنا، ما أدّى إلى لعب دور إيجابي في التقارب بين البشر من جميع الأجناس والبلدان، وعزّز التواصل والتفاهم بينها، يصحّ فيها أنّ الرواية شكّلت رسائل متبادلة بين الشعوب.
وإذا كان في انتقاد الرواية بأنّها تُعنى بالإنسان لا بالسياسة وجهةُ نظر لافتة، خاصّةً عندما وُظّفت لخدمة الأيديولوجيات بأنواعها الاشتراكية والرأسمالية، لكنّها خلّفت وراءها ما التبس على كثيرين، إلى حدّ إصابتهم بفوبيا السياسة، وأصبح مجرّد الإشارة إلى تأثيرها مستنكَراً، لكنّنا لسنا بهذه الرفاهية، ولا في عالم مثالي يشكو من الضجر. نحن نعيش في عالم تصنعه السياسة، وقد لا نبالغ، هذا العالم يتنفّس ويقتات ويعيش من سياسات تتحكّم في مصائرنا، وفي تنحيتها جانباً تعتيمٌ على مدى تأثيرها المفرط في حياتنا، كأنّنا ندعو إلى أدب يتنكّر للإنسان ومشكلاته.
يجب ألّا نغفل عن أنّه منذ بدايات الرواية كانت السياسة بمعناها العريض متغلغلة فيها، بالسخرية من أصحاب المناصب والثروات، واللاعدالة والظلم، وبانتقاد تقاليد المجتمع الأبوي والتركيبة الطبقية، العروش والأرستقراطيات والبرجوازيات، ومحاولات ترسيخها، وهجاء السلطة المطلقة.
الكتابة تذكير بما نفتقده من حرّية وعدالة، كي نستعيد إنسانيتنا المفقودة
لم يغب عن الأدب، بكلّ أنواعه، إدراك أنّ السياسة تُحاول أن تسبغ هيمنتها على تطلّعات البشر، وإحلال أجنداتها محلّها، وأن تكون البديل عنها. في المقابل، بات الأدب مضطرّاً لا مخيَّراً في اختراق السياسة، من دون التذرّع بأنّها تؤذيه، أو تحطّ منه. الأدبُ مستهدفٌ منها، فالمنع كان دائماً من السلطات السياسية والاجتماعية والدينية، في حين أنْ لا حدود للأدب، ودائماً من خلال الإعلان أن لا شيء ممنوعٌ عنه، ولا يمتنع عليه، وكان لا بدّ من الصدام، ما دام الأدب متحرّراً.
إنّ توزيع القوّة والنفوذ بين الدول، وما يؤدّي داخل الدولة الواحدة إلى انقسام المجتمعات إلى حاكمين ومحكومين، وفي التساؤل عن تكييف نوع العلاقة بينهما، فالجواب لا يمكنه تجاوُز ما يخلق التباين بينهما، بل في الطبقة نفسها، تُرى ما نوعها؟ تلك هي ظاهرة السلطة التي قد تؤدّي إلى التسلّط، كلاهما يحدّدان شؤون البشر ومصائرهم، الحياة والموت، السعادة والتعاسة، الحب والكراهية.
لا يغفل الكاتب عنها، بمعنى ألّا يتجاهلها، ولا يستبعدها من حساباته. قلّما إنسانٌ لا يتأثّر فيها. وإذا كان الروائي يعتقد بأنّه يستلّ شخصياته من الواقع، فسوف تحضر مترافقةً معه. إنّ السياسة في الرواية تعني التبصّر في إدارة الحياة، وما تزخر به من تسلّط وقهر وتفاوت وطبقات وصراعات محتدمة بينها… كلُّ هذا يتعلّق بالسياسة المسيطرة في أزمنة الدكتاتوريات والديمقراطيات وبقايا الاستعمار والشعبويات والعنصريات، ليس من زمن بريء.
فالربيع العربي بوصفه مثالاً، تجلّى في مسلسل ثورات في عدّة بلدان، ثورة واحدة انتصرت حتى الآن، والباقي يقاوم في الخفاء، إذ لا شيء تغيّر، فالطغاة ما زالوا، وانتصار واحد لا يخفّف من عبء هزائم ما زالت تُفرز كوارثها على الشعوب، ولن تكون الكتابة إلّا ضرورة، وبلا تهويل كتابة عن الشقاء ومحاولات الشفاء.
وإذ نستعيد الربيع العربي، فلنتذكّر أنّه ليس حدثاً سياسياً فحسب، إنّه حدثٌ إنساني ضدّ استبداد لا ينحو إلى ترسيخ وجوده فقط، بقدر ما يعمل على تأبيده أيضاً. والكتابة تذكير بما نفتقده من حرّية وعدالة، كي نستعيد إنسانيتنا المفقودة.
-
المصدر :
- العربي الجديد