للانتحار سمعة غير طيبة، كما أنه سيء الحظ، ليس في الموت، بل في المديح الذي طاله، من دون أن يطرأ تحسين على سمعته. بالوسع توصيفه بنظرة باردة، يستبطئ المنتحر موته، فيستعجل الذهاب إليه. لكن للانتحار مساراته الخاصة، على الرغم من المشاهير راجحي العقل الذين اقترفوه على مر العصور، كسقراط قديماُ، وستيفن زفايج حديثاً، وهتلر المشهور جداً مع الشك بسلامة عقله.

ليس ثمة انتحار بلا سبب، فعل الانتحار منطقي ومعلل، وإذا كان الإقبال عليه ضئيلاً، بالمقارنة مع الحانقين من العيش، فلأنه قرار فردي. فالعالم لم يشهد انتحارات جماعية إلا نادراً، مع أن الحياة بإجماع الكثيرين لا تحتمل، خصوصاً للبشر مرهفي الإحساس، ينشدون الخلاص منها، ومن الممكن قيام احتجاج انتحاري جماعي، لكن كما يبدو، لحظات الالم، والخوف من المجهول، تحبط العزائم، فالانتحار يتطلب الشجاعة والارادة، سيما وأن المنتحر يلعب دور القاتل والقتيل معاً، وليس هذا مما يُتفق عليه. لولا الجبن من مواجهة الحياة، وفقدان الأمل منها، لما أقدم المنتحر على فعل يفتقد إلى التبصر.

كان هوميروس صاحب الإلياذة والأوديسة من أوائل من امتدحوا الانتحار، لم يجد فيه غرابة، بل حادثاً طبيعياً، وعملاً من أعمال البطولة، هذا في زمن كانت فيه الحرب تعتمد على القوة العضلية والجرأة، وكان الإقدام على القتال أشبه بالانتحار.

“إذا كان الانتحار جريمة فلأن العدالة معصوبة العينين”

كل عصر نظر إليه من منظاره، ففي زمن بلزاك، بعد انتهاء محنة الثورة الفرنسية، وتفشي اللجوء إلى المقصلة ودحرجة رؤوس الثوريين أسوة برؤوس النبلاء، وعودة الصالونات والأفراح وغراميات القصور والنمائم النسائية؛ وجد بلزاك أنه في هذه الأجواء العابثة، يبرز الانتحار كتعبير راق للحزن(!) بمثابة الرد المثالي على البهجة الكاذبة التي طبعت عودة الملكية، والإحباط الذي واجه من عادوا من جبهات القتال المترامية في أرجاء أوروبا، حفاة ممزقي الملابس يحملون عاهاتهم كأوسمة بلا بريق، يتسولون رواتبهم، وربما طعامهم من أعداء الأمس، فكان الانتحار الحزين دليل أنفة المقاتلين الذين جابوا البلاد واجتازوا الحدود يحملون شعلة الحرية، التي عادت بالدمار على الثورة.

في روسيا عصر القياصرة، شكل الانتحار الحرية الوحيدة للخلاص من الاستبداد، فكان تحدياً للطغيان ورغماً عنه. يعبر دوستويفسكي، من خلال أحد أبطاله: أقتل نفسي لأؤكد حريتي، ويصفها بالحرية المخيفة التي تذهب به ربما إلى العدم. في العقد الأخير من القرن التاسع عشر يُعلي نيتشه من شأن الانتحار: ما الرغبة فيه سوى أنه موت إرادي. بعد وفاته بأربعة عشر عاماً تحصد الحرب العالمية الأولى ملايين الجنود، كان موتهم على الضد من إرادتهم ورغبتهم في العيش. عقب انتهاء الحرب وانكشاف الدمار والقبور الجماعية، ساد الحداد الفضاء الملوث بالدخان، حتى باتوا يتنفسونه، ولم يعد هناك معنى لأي شيء؛ فاجتاحت أوروبا النزعة العدمية، كانت اللامعنى الموثوق به الذي سيطر على المثقفين والفنانين، وعبر عنه الكاتب الفرنسي موريس باريس، صاحب رواية “جنة على نهر العاصي”: “الانتحار هو الاعتقاد أن هناك شيئاً جاداً في العالم”.

أدانت الأديان فعل الانتحار وأصدرت الحرم على المنتحر، ووعدته يوم الحساب بنار جهنم، عقاباً له. الله هو الذي منح الإنسان الحياة، ولا يحق للإنسان التصرف فيها بالموت. إذا كان الحظر الديني مبرراً، فلأن الانتحار نفي الخلق بالإفناء، واعتراض عليه بضده. ما يحيلنا إلى العمليات الجهادية الانتحارية، والجهاديين المتفائلين بالموت، يطلبونه ويفرضونه على غيرهم، الدافع الأقوى إليه سنده الإيمان، ويعارضه الإيمان؛ يحق لك أن تجاهد في سبيل قضية حقة، ولا يحق لك الانتحار. العمليات الانتحارية ليست اختراعاً إسلامياً، سبقها الكاميكاز الياباني في الحرب العالمية الثانية المستقى من تقاليد الساموراي.

من العبث السؤال فيما إذا كان الانتحار عملاً أخلاقياً أم لا؟ من الممكن تبريره عقلانياً، لكنه لا يخضع للأخلاق، إنه فعل اليأس، هل اليأس مبرر أخلاقي؟ اليأس حالة نفسية، يعكسها الخذلان من الحياة والبشر… وأيضاً أمراض الكآبة، مهما حاولنا تجميله، فطابعه المأساوي لا يخفي العذاب والآلام النفسية التي تدفع المنتحر إلى خاتمة هي أمله الوحيد في الراحة.

تتحلّى ظاهرة الانتحار بالعدالة، فهي لم تختص بفئة من البشر، أو بقطاع من الناس، الأغنياء كالفقراء، الأذكياء كالأغبياء، العلماء كالجهلة، العسكريين كالمدنيين، الحكام كالمحكومين… كلهم سواسية، يضربهم الانتحار، إذ اليأس لا يفرق بين البشر، وإن اختلفت الأسباب، وكلها عائدة إلى الطبيعة البشرية الهشة والغامضة، القابلة للضعف والإحباط والانكسار.

ليس هذا مديحاً للانتحار، بل مديح للعدالة، إذ تتميز بالعمى، لا تبصر لئلا تميل بها الأهواء، فتصيب ونادراً ما تخطئ، وإذا كان الانتحار جريمة بحق النفس، وأحياناً بحق الآخرين أيضاً، فلأن العدالة معصوبة العينين.